110. ب مم

تشقق السماوات وتكور الشموس /ثالثة 3 ثانوي مدونة محدودة /كل الرياضيات تفاضل وتكامل وحساب مثلثات2ثانوي ترم أول وأحيانا ثاني التجويد /من كتب التراث الروائع /فيزياء ثاني2 ثانوي.ت2. /كتاب الرحيق المختوم /مدونة تعليمية محدودة رائعة / /الكشكول الابيض/ثاني ثانوي لغة عربية ترم اول يليه ترم ثاني ومعه 3ث /الحاسب الآلي)2ث /مدونة الأميرة الصغيرة أسماء صلاح التعليمية 3ث /مدونة السنن الكبري للنسائي والنهاية لابن كثير /نهاية العالم /بيت المعرفة العامة /رياضيات بحتة وتطبيقية2 ثانوي ترم ثاني /احياء ثاني ثانوي ترم أول /عبدالواحد2ث.ت1و... /مدونة سورة التوبة /مدونة الجامعة المانعة لأحكام الطلاق حسب سورة الطلاق7/5هـ /الثالث الثانوي القسم الأدبي والعلمي /المكتبة التعليمية 3 ثانوي /كشكول /نهاية البداية /مدونة كل روابط المنعطف التعليمي للمرحلة الثانوية /الديوان الشامل لأحكام الطلاق /الاستقامة اا. /المدونة التعليمية المساعدة /اللهم أبي وأمي ومن مات من أهلي /الطلاق المختلف عليه /الجغرافيا والجيولوجيا ثانية ثانوي الهندسة بأفرعها / لغة انجليزية2ث.ت1. / مناهج غابت عن الأنظار. /ترم ثاني الثاني الثانوي علمي ورياضة وادبي /المنهج في الطلاق/عبد الواحد2ث- ت1.  /حورية /المصحف ورد ج /روابط المواقع التعليمية ثانوي غام /منعطف التفوق التعليمي لكل مراحل الثانوي العام /لَا ت /قْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِفيزياء 2 ثاني ثانوي.ت1. /سنن النكاح والزواج /النخبة في /مقررات2ث,ترم أول عام2017-2018 /مدونة المدونات /فلسفة.منطق.علم نفس.اجتماع 2ث /ترم اول /الملخص المفيد ثاني ثانوي ترم أول /السيرة النبوية /اعجاز الخالق فيمن خلق /ترجمة المقالات /الحائرون الملتاعون هلموا /النُخْبَةُ في شِرعَةِ الطلاق. /أصول الفقه الاسلامي وضوابطه /الأم)منهج ثاني ثانوي علمي رياضة وعلوم /وصف الجنة والحور العين اللهم أدخلنا الجنة ومتاعها /روابط مناهج تعليمية ثاني ثانوي كل الأقسام /البداية والنهاية للحافظ بن /كثبر /روابط مواقع تعليمية بالمذكرات /دين الله الحق /مدونة الإختصارات /الفيزياء الثالث الثانوي روابط /علم المناعة /والحساسية /طرزان /مدونة المدونات /الأمراض الخطرة والوقاية منها /الخلاصة الحثيثة في الفيزياء /تفوق وانطلق للعلا /الترم الثاني ثاني ثانوي كل مواد 2ث /الاستقامة أول /تكوير الشمس /كيمياء2 ثاني ثانوي ت1. /مدونة أسماء صلاح التعليمية 3ث /مكتبة روابط ثاني /ثانوي.ت1./ثاني ثانوي لغة عربية /ميكانيكا واستاتيكا 2ث ترم اول /اللغة الفرنسية 2ثانوي /مدونة مصنفات الموسوعة الشاملة فهرسة /التاريخ 2ث /مراجعات ليلة الامتحان كل مقررات 2ث الترم الثاني /كتاب الزكاة /بستان العارفين /كتب 2 ثاني ثانوي ترم1و2 . /ترم اول وثاني الماني2ث

الأربعاء، 16 ديسمبر 2020

كتاب الروح لابن القيم من 1 ال 7..

المؤلف: ابن القيم

المسألة الأولى

 


 

المقدمة

 

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد للّه المتصف بصفات الكمال، المنعوت بنعوت الجلال، الذي علم ما كان وما يكون وما هو كائن في الحال والمآل، وحكم بالموت على كل ذي روح من مخلوقاته، وساوى فيه بين الملك والمملوك، والغني والفقير، والشريف والضعيف، والعاصي والمطيع، من سكان أرضه وسماواته، فهو الذي عدل في الآخرة بين برياته [1]، قبض روح هذا بعد ما عمر الدنيا وزخرف البناء وتوطّنها، وليست لحي وطنا، وتبغي روح الآخر الذي اجتهد في إصلاح آخرته، وجعل الدنيا لجة [2]، واتخذ صالح الأعمال فيها سفنا، فشتان ما بين خروج الروحين من الجسدين، هذه لها السعادة والهناء، وتلك لها الخيبة والشقاء والعناء [3]، هذه ترفع في رياض الجنة وتأوي إلى قناديل معلقة في العرش في لذة ونعيم، وتلك محبوسة تعذب في نار الجحيم. و أشهد أن لا إله إلا اللّه وحده لا شريك له، إله تحبب إلى عباده بنعمه وآلائه، وابتدأهم سبحانه وتعالى بإحسانه العميم وعطائه، فعياذا بعزته جل جلاله أن يختم بالإساءة وقد بدأنا بالإحسان، فله سبحانه الحمد والشكر والنعمة والفضل والخلق والأمر والثناء الحسن الجميل والامتنان.
و أشهد أن محمدا صلوات اللّه وسلامه، عبده ورسوله الطيب الروح و الجسد، سيد ولد آدم [4]، وأفضل من قام وركع وسجد، الذي أنزل عليه في كتابه العزيز، ﴿وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَعْدَ اللّهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللّهِ قِيلاً﴾ [4:122] ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا﴾ [17:85] وعلى آله وصحبه خير القرون الذين اهتدوا وما بدلوا تبديلا، صلاة دائمة بدوام السموات والأرض، إلى أن يرث سبحانه وتعالى الأرض ومن عليها للحساب والعرض، وسلم تسليما كثيرا (و بعد)
فهذا كتاب عظيم النفع، جليل القدر، كثير الفائدة، ما صنف مثله في معناه، فلا تكاد تجد ما تضمنه من بدائع الفوائد وفوائد القلائد [5] في كتاب سواه، ويشتمل على جملة من المسائل، تتضمن الكلام على أرواح الأموات والأحياء بالدلائل: الكتاب والسنّة والآثار وأقوال العلماء الأخيار، لا أدري أسأل مصنفه قدس اللّه روحه عنها فأجاب، أم سئل عن البعض ولكن هو أطال الخطاب، فإني رأيته مجردا عن خطبة وسؤال أصلا مبتدئا فيه بقوله:
(أما المسألة الأولى وهي: هل تعرف الأموات زيارة الأحياء وسلامهم أم لا) فأحببت بعد استخارة اللّه سبحانه وتعالى أن أفتتحه بهذه الخطبة المباركة العظيمة.
لكونه كتابا في ضمن مسائلة التي تتأملها وتشاهدها كل درة يتيمة، لينشرح صدر الناظر فيه، ولتقوي همته على النظر في بدائع فوائده ودقائق معانيه. واللّه سبحانه وتعالى المسئول المرجو الإجابة، أن يعصمنا من الزيغ والزلل، وأن يوفقنا لصالح النية والقول والعمل، وأن يرفع درجات مؤلفه في جنات النعيم، وأن ينفع به الناظر فيه إنه سميع عليم، إنه على كل شي ء قدير وبالإجابة جدير، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
(قال) الشيخ الإمام العالم العامل ترجمان القرآن، ذو الفنون الحسان، شيخ الإسلام، قدوة الأنام، أوحد الحفّاظ، فارس المعاني والألفاظ، علّامة العلماء، وارث الأنبياء، عمدة المفسرين، بغية المجتهدين، شمس الدين أبو عبد اللّه محمد ابن الشيخ الإمام العالم شرف الدين أبي بكر ابن الشيخ الكبير أيوب بن سعد الشهير بابن قيم الجوزية الحنبلي الدمشقي قدس اللّه تعالى روحه، ونور ضريحه، وجعل أبواب الجنان بين يديه مفتوحة ولسائر علماء الإسلام الجهابذة النقّاد الأعلام آمين، وصلى اللّه على سيدنا محمد سيد الأولين والآخرين، وآله وصحبه أجمعين.

 

هامش

 

  يُقال: برأ اللّه الخليقة يبرؤها (بفتحتين) أي خلقها، فهو البارئ، والبرية فعيلة بمعنى مفعولة.

    اللّجّ: بالضم: الجماعة الكثيرة ومعظم الماء، كاللجة فيهما، ومنه بحر لجي ويكسر.

    عني: من باب تعب، إذا نشب في الإسار فهو عان، والجمع عناة، ويتعدى بالهمزة، وعنى الأسير من باب تعب لغة أيضا، ومنه قيل للمرأة عانية لأنها محبوسة عند الزوج، والجمع عوان، وعنا يعنو عنوة: إذا أخذ الشي ء قهرا، وكذلك إذا أخذه صلحا فهو من الأضداد قال (كثير عزة):
"فما أخذوها عنوة عن مودة ... ولقد ضرب المشرفي استقلالها"

    أخرج أبو داود عن أبي هريرة رضي اللّه عنه قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم: «أنا سيد ولد آدم ولا فخر، وأول من تنشق عنه الأرض، وأول شافع وأول مشفع» انظر سنن أبي داود رقم 4673.

  القلادة ما يجعل في الصف من حلي ونحوه، أو وسام تمنحه الدولة لمن تشاء تقديرا له، والجمع قائد.

......................................2........................................

المسألة الأولى (و هي: هل تعرف الأموات زيارة الأحياء وسلامهم أم لا)

قال ابن عبد البر: ثبت عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم أنه قال: «ما من مسلم يمر على قبر أخيه كان يعرفه في الدنيا فيسلم عليه إلا رد اللّه عليه روحه حتى يرد عليه السلام». فهذا نص في أنه يعرفه بعينه ويرد عليه السلام.
و في الصحيحين عنه صلى اللّه عليه وآله وسلم من وجوه متعددة أنه أمر بقتلى بدر فألقوا في قليب ثم جاء حتى وقف عليهم وناداهم بأسمائهم، يا فلان بن فلان، ويا فلان ابن فلان، «هل وجدتم ما وعدكم ربكم حقا، فإني وجدت ما وعدني ربي حقا» فقال له عمر: يا رسول اللّه ما تخاطب من أقوام قد جيفوا؟ فقال:
«و الذي بعثني بالحق ما أنتم بأسمع لما أقول منهم ولكنهم لا يستطيعون جوابا» [1]. و ثبت عنه صلى اللّه عليه وآله وسلم أن الميت يسمع قرع نعال المشيعين له إذا انصرفوا عنه [2].
و قد شرع النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم لأمته إذا سلموا على أهل القبور أن يسلموا عليهم سلام من يخاطبونه فيقول: السلام عليكم دار قوم مؤمنين [3] وهذا خطاب لمن يسمع ويعقل- ولو لا ذلك لكان هذا الخطاب بمنزلة خطاب المعدوم والجماد.
و السلف مجمعون على هذا وقد تواترت الآثار عنهم بأن الميت يعرف زيارة الحي له ويستبشر به.
قال أبو بكر عبد اللّه بن محمد بن عبيد بن أبي الدنيا في كتاب القبور باب معرفة الموتى بزيارة الأحياء (حدثنا) محمد بن عون حدثنا يحيى بن يمان عن عبد اللّه بن سمعان عن زيد بن أسلم عن عائشة رضي اللّه تعالى عنها قالت: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم: «ما من رجل يزور قبر أخيه ويجلس عنده إلا استأنس به ورد عليه حتى يقوم» (حدثنا) محمد بن قدامة الجوهري، حدثنا معن بن عيسى القزاز، أخبرنا هشام بن سعد، حدثنا زيد بن أسلم عن أبي هريرة رضي اللّه تعالى عنه قال: إذا مر الرجل بقبر أخيه فسلم عليه، رد عليه السلام وعرفه، وإذا مر بقبر لا يعرفه فسلم عليه رد عليه السلام (حدثنا محمد بن الحسين حدثني يحيى بن بسطام الأصغر حدثني مسمع حدثني رجل من آل عاصم الجحدري قال: رأيت عاصما الجحدري في منامي بعد موته بسنتين فقلت: أ ليس قد مت. قال: بلى، قلت: فأين أنت؟ قال: أنا واللّه في روضة من رياض الجنة، أنا ونفر من أصحابي، نجتمع كل ليلة جمعة وصبيحتها إلى بكر بن عبد اللّه المزني [4]، نتلقى أخباركم، قال: قلت: أجسادكم أم أرواحكم؟ قال: هيهات بليت الأجسام وإنما تتلاقى الأرواح، قال: قلت: فهل تعلمون بزيارتنا إياكم؟
قال: نعم نعلم بها عشية الجمعة كله ويوم السبت إلى طلوع الشمس، قال: قلت:
فكيف ذلك دون الأيام كلها؟ قال: لفضل يوم الجمعة وعظمته (و حدثنا) محمد بن الحسين، حدثني بكر بن محمد، حدثنا حسن القصاب قال: كنت أغدو مع محمد بن واسع في كل غداة سبت حتى نأتي الجبان فنقف على القبور فنسلّم عليهم وندعو لهم ثم ننصرف، فقلت ذات يوم: لو صبرت هذا اليوم يوم الاثنين، قال: بلغني أن الموتى يعلمون بزوارهم يوم الجمعة ويوما قبلها ويوما بعدها (حدثني) محمد حدثنا عبد العزيز بن إبان قال: حدثنا سفيان الثوري قال: بلغني عن الضحاك أنه قال: من زار قبرا يوم السبت قبل طلوع الشمس علم الميت بزيارته الأخيرة، فقيل له: وكيف ذلك؟ قال: لمكان يوم الجمعة.
(حدثنا) خالد بن خداش، حدثنا جعفر بن سليمان عن أبي التياح قال: كان مطرف يغدو فإذا كان يوم الجمعة أدلج [5] (قال وسمعت أبا التياح) يقول: بلغنا أنه كان ينور له في سوطه، فأقبل ليلة، حتى إذا كان عند مقابر القوم وهو على فرسه، فرأى أهل القبور كل صاحب قبر جالسا على قبره، فقالوا: هذا مطرف يأتي الجمعة، قلت: وتعلمون عندكم يوم الجمعة؟ قالوا: نعم، ونعلم ما يقول فيه الطير، قلت: وما [يقولون؟ قالوا: يقولون]: [6] سلام سلام.
(حدثني) محمد بن الحسين حدثني يحي بن أبي بكير، حدثني الفضل بن موفق ابن خال سفيان بن عيينة قال: لما مات أبي جزعت عليه جزعا شديدا، فكنت آتي قبره في كل يوم، ثم قصرت عن ذلك ما شاء اللّه، ثم إني أتيته يوما، فبينما أنا جالس عند القبر غلبتني عيناي فنمت، فرأيت كأن قبر أبي قد انفرج، وكأنه قام في قبره متوشحا أكفانه [7] عليه سحنة [8] الموتى قال: فكأني بكيت لما رأيته قال: يا بني ما أبطأ بك عني؟ قلت: وإنك لتعلم بمجيئي؟ قال: ما جئت مرة إلا علمتها، وقد كنت تأتيني فآنس بك وأسر بك ويسر من حولي بدعائك، قال:
فكنت آتيه بعد ذلك كثيرا.
(حدثني) محمد، حدثني يحي بن بسطام، حدثني عثمان بن سودة الطفاوي (و كانت أمه من العابدات وكان يقال لها راهبة) قال: لما احتضرت رفعت رأسها إلى السماء فقالت: يا ذخرتي وذخيرتي [9]، ومن عليه اعتمادي في حياتي و بعد موتي لا تخذلني عند الموت، ولا توحشني [10] في قبري، فماتت فكنت آتيها في كل جمعة فأدعو لها وأستغفر لها ولأهل القبور، فرأيتها ذات يوم في منامي فقلت لها: يا أمي كيف أنت؟ قالت: أي بني أن للموت لكربة شديدة، وأني بحمد اللّه لفي برزخ [11] محمود، نفترش فيه الريحان، ونتوسد فيه السندس والإستبرق [12] إلى يوم النشور [13] فقلت لها: أ لك حاجة؟ قالت: نعم، قلت: وما هي؟ قالت: لا تدع ما كنت تصنع من زيارتنا والدعاء لنا، فإني لأبشر بمجيئك يوم الجمعة إذا أقبلت من أهلك، يقال: يا راهبة هذا ابنك قد أقبل فأسر ويسر بذلك من حولي من الأموات:
(حدثني) محمد بن عبد العزيز بن سليمان، حدثنا بشر بن منصور قال: لما كان زمن الطاعون كان رجل يختلف إلى الجبان، فيشهد الصلاة على الجنائز، فإذا أمسى وقف على باب المقابر فقال: آنس اللّه وحشتكم، ورحم غربتكم، وتجاوز عن مسيئكم، وقبل حسناتكم، لا يزيد على هؤلاء الكلمات، قال: فأمسيت ذات ليلة وانصرفت إلى أهلي، ولم آت المقابر فأدعو كما كنت أدعو، قال: فبينما أنا نائم إذا بخلق كثير قد جاؤوني فقلت: ما أنتم وما حاجتكم؟ قالوا: نحن أهل المقابر، قلت: ما حاجتكم؟ قالوا: إنك عودتنا منك هدية عند انصرافك إلى أهلك، فقلت: وما هي؟ قالوا: الدعوات التي كنت تدعو بها، قال: قلت: فإني أعود لذلك، قال: فما تركتها بعد [14]. (حدثني) محمد حدثني أحمد بن سهل حدثني رشد بن سعد عن رجل عن يزيد بن أبي حبيب أن سليم بن عمر مر على مقبرة وهو حاقن [15] قد غلبه البول، فقال له بعض أصحابه: لو نزلت إلى هذه المقابر فبلت في بعض حفرها، فبكى ثم قال: سبحان اللّه، واللّه إني لأستحي من الأموات كما أستحي من الأحياء، ولو لا أن الميت يشعر بذلك لما استحيا منه.
(و أبلغ) من ذلك أن الميت يعلم بعمل الحي من أقاربه وإخوانه، قال عبد اللّه بن المبارك [16]: حدثني ثور بن يزيد، عن إبراهيم، عن أبي أيوب قال: عظني؟
قال: بم أعظك أصلحك اللّه، بلغني أن أعمال الأحياء تعرض على أقاربهم الموتى فانظر ما يعرض على رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم من عملك، فبكى إبراهيم حتى أخضل [17] لحيته.
قال ابن أبي الدنيا: وحدثني محمد بن الحسين، حدثني خالد بن عمرو الأموي، حدثنا صدقة بن سليمان الجعفري قال: كانت لي شرة سمجة [18] فمات أبي، فأنبت وندمت على ما فرطت، قال: ثم زللت أيما زلة، فرأيت أبي في المنام فقال: أي بني ما كان أشد فرحي بك، أعمالك تعرض علينا فنشبهها بأعمال الصالحين، فلما كانت هذه المرة استحييت لذلك حياء شديدا، فلا تخزني فيمن حولي من الأموات، فقال: فكنت أسمعه بعد ذلك يقول في دعائه في السحر (و كان جار لي بالكوفة): أسألك إنابة لا رجعة فيها ولا حور [19]، يا مصلح الصالحين، ويا هادي المضلين، ويا أرحم الراحمين.
و هذا باب في آثار كثيرة عن الصحابة، وكان بعض الأنصار من أقارب عبد اللّه بن رواحة يقول: اللهم إني أعوذ بك من عمل أخزى به عند عبد اللّه بن رواحة، كان يقول ذلك بعد أن استشهد عبد اللّه.
و يكفي في هذا تسمية المسلم عليهم زائرا ولو لا أنهم يشعرون به لما صح تسميته زائرا، فإن المزور إن لم يعلم بزيارة من زاره لم يصح أن يقال: زاره هذا، هو المعقول من الزيارة عند جميع الأمم، وكذلك السلام عليهم أيضا، فإن السلام على من لا يشعر ولا يعلم بالمسلم محال، وقد علم النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم أمته إذا زاروا القبور أن يقولوا: «سلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، وإنا إن شاء اللّه بكم لاحقون، يرحم اللّه المستقدمين منا ومنكم والمستأخرين، نسأل اللّه لنا ولكم العافية» [20].
و هذا السلام والخطاب والنداء لموجود يسمع ويخاطب ويعقل ويرد، وإن لم يسمع المسلم الرد، وإذا صلى الرجل قريبا منهم شاهدوه وعلموا صلاته وغبطوه على ذلك.
(قال) يزيد بن هارون: أخبرنا سليمان التيمي، عن أبي عثمان النهدي، أن ابن ساس خرج في جنازة في يوم وعليه ثياب خفاف، فانتهى إلى قبر، قال:
فصليت ركعتين، ثم اتكأت عليه، فو اللّه إن قلبي ليقظان، إذ سمعت صوتا من القبر، إليك عني لا تؤذني فإنكم [اليوم] [21] تعلمون ولا تعملون، ونحن [اليوم] نعلم ولا نعمل ولأن يكون لي مثل ركعتيك أحب إلي من كذا وكذا، فهذا قد علم باتكاء الرجل على القبر وبصلاته.
(و قال) ابن أبي الدنيا: حدثني الحسين بن علي العجلي، حدثنا محمد بن الصلت، حدثنا إسماعيل بن عياش، عن ثابت بن سليم، حدثنا أبو قلابة قال:
أقبلت من الشام إلى البصرة، فنزلت منزلا، فتطهرت وصليت ركعتين بليل، ثم وضعت رأسي على قبر فنمت، ثم انتبهت، فإذا صاحب القبر يشتكيني، قد آذيتني منذ الليلة ثم قال: إنكم تعلمون ولا تعملون، ونحن نعلم ولا نقدر على العمل، ثم قال: الركعتان اللتان ركعتهما خير من الدنيا وما فيها، ثم قال: جزى اللّه أهل الدنيا خيرا، أقرئهم منا السلام، فإنه يدخل علينا من دعائهم نورا مثال الجبال. (و حدثني) الحسين العجلي، حدثنا عبد اللّه بن نمير، حدثنا مالك بن مغول، عن منصور بن زيد بن وهب قال: خرجت إلى الجبّانة فجلست فيها، فإذا رجل قد جاء إلى قبر فسواه، ثم تحول إلي فجلس قال: فقلت لمن هذا القبر؟
قال: أخ لي، فقلت: أخ لك؟ فقال: أخ لي في اللّه رأيته فيما يرى النائم فقلت:
فلان عشت، الحمد للّه رب العالمين، قال: قد قلتها، لأن أقدر على أن أقولها أحب إلي من الدنيا وما فيها، ثم قال: أ لم تر حيث كانوا يدفنونني، فإن فلانا قام فصلى ركعتين، لأن أكون أقدر على أن أصليهما أحب إلي من الدنيا وما فيها (حدثني) أبو بكر التيمي، حدثنا عبد اللّه بن صالح، حدثني الليث بن سعد (حدثني) حميد الطويل، عن مطرف بن عبد اللّه الحرشي قال: خرجنا إلى الربيع في زمانه، فقلنا: ندخل يوم الجمعة لشهودها وطريقنا على المقبرة، قال: فدخلنا فرأيت جنازة في المقبرة، فقلت: لو اغتنمت شهود هذه الجنازة فشهدتها، قال:
فاعتزلت ناحية قريبا من قبر، فركعت ركعتين خففتهما لم أرض إتقانهما ونعمت، فرأيت صاحب القبر يكلمني وقال: ركعت ركعتين لم ترض إتقانهما؟ قلت: قد كان ذلك، قال: تعلمون ولا تعملون ولا نستطيع أن نعمل، لأن أكون ركعت مثل ركعتيك أحب إلي من الدنيا بحذافيرها، فقلت: من هاهنا؟ فقال: كلهم مسلم، وكلهم قد أصاب خيرا، فقلت: من هاهنا أفضل؟ فأشار إلى قبر، فقلت في نفسي اللهم ربنا أخرجه إلي فأكلمه، قال: فخرج من قبره فتى شاب، فقلت: أنت أفضل من هاهنا؟ قال: قد قالوا ذلك، قلت: فبأي شي ء نلت ذلك، فو اللّه ما أرى لك ذلك السن فأقول نلت ذلك بطول الحج والعمرة والجهاد في سبيل اللّه والعمل، قال قد ابتليت بالمصائب فرزقت الصبر عليها فبذلك فضلتهم.
تنبيه:
و هذه المرائي وإن لم تصح بمجردها لإثبات مثل ذلك فهي على كثرتها وأنها لا يحصيها إلا اللّه قد تواطأت على أنها في العشر الأواخر يعني ليلة القدر، فإذا تواطأت رؤيا المؤمنين على شي ء كان كتواطؤ روايتهم له وكتواطؤ رأيهم على استحسانه واستقباحه، وما رآه المسلمون حسنا فهو عند اللّه حسن، وما رأوه قبيحا فهو عند اللّه قبيح، على أنا لم نثبت هذا بمجرد الرؤيا بل بما ذكرناه من الحجج وغيرها. و قد ثبت في الصحيح أن الميت يستأنس بالمشيعين لجنازته بعد دفنه (فروى) مسلم في صحيحه من حديث عبد الرحمن بن شماسة المهري قال:
حضرنا عمرو بن العاص وهو في سياق الموت [22]، فبكى طويلا، وحوّل وجهه إلى الجدار، فجعل ابنه يقول: ما يبكيك يا أبتاه، أما بشرك رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم بكذا؟ فأقبل بوجهه فقال: إن أفضل ما نعد شهادة أن لا إله إلا اللّه وأن محمدا رسول اللّه، وإني كنت على أطباق ثلاث [23]، لقد رأيتني وما أحد أشد بغضا لرسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم مني ولا أحب إليّ أن أكون قد استمكنت منه فقتلته، فلو متّ على تلك الحال لكنت من أهل النار، فلما جعل اللّه الإسلام في قلبي لقيت رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم فقلت: أبسط يدك فلأبايعك، فبسط يمينه قال: فقبضت يدي قال: فقال: «ما لك يا عمرو»؟ قال قلت: أردت أن أشترط. قال: «تشترط ما ذا»؟ قلت: أن يغفر لي قال: «أ ما علمت أن الإسلام يهدم ما كان قبله، وأن الهجرة تهدم ما كان قبلها، وأن الحج يهدم ما كان قبله»؟ وما كان أحد أحب إلي من رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم، ولا أجل في عيني منه، وما كنت أطيق أن أملأ عيني منه إجلالا له، ولو سئلت أن أصفه ما أطقت، لأني لم أكن املأ عيني منه، ولو مت على تلك الحال لرجوت أن أكون من أهل الجنة، ثم ولينا أشياء ما أدري ما حالي فيها، فإذا أنا مت فلا تصحبني نائحة ولا نار، فإذا دفنتموني فسنوا عليّ التراب سنا [24]، ثم أقيموا حول قبري قدر ما تنحر جزور [25]، ويقسم لحمها حتى استأنس بكم وأنظر ما ذا أراجع به رسل ربي [26]. فدل على أن الميت يستأنس بالحاضرين عند قبره ويسر بهم.
و قد ذكر عن جماعة من السلف أنهم أوصوا أن يقرأ عند قبورهم وقت الدفن، قال عبد الحق: يروى أن عبد اللّه بن عمر أمر أن يقرأ عند قبره سورة البقرة، وممن رأى ذلك المعلى بن عبد الرحمن، وكان الإمام أحمد ينكر ذلك أولا حيث لم يبلغه فيه أثر ثم رجع عن ذلك.
و قال الخلال في الجامع كتاب القراءة عند القبور: (أخبرنا) العباس بن محمد الدوري حدثنا يحيى بن معين، حدثنا مبشر الحلبي، حدثني عبد الرحمن بن العلاء بن اللجلاج عن أبيه قال: قال أبي: إذا أنا مت فضعني في اللحد وقل: بسم اللّه وعلى سنّة رسول اللّه، وسن عليّ التراب سنا، واقرأ عند رأسي بفاتحة البقرة، فإني سمعت عبد اللّه بن عمر يقول ذلك (قال) عباس الدورمي: سألت أحمد بن حنبل قلت: تحفظ في القراءة على القبر شيئا؟ فقال:
لا، وسألت يحيى بن معين فحدثني بهذا الحديث.
(قال الخلال) وأخبرني الحسن بن أحمد الوراق، حدثني علي بن موسى الحداد وكان صدوقا قال: كنت مع أحمد بن حنبل ومحمد بن قدامة الجوهري في جنازة، فلما دفن الميت جلس رجل ضرير يقرأ عند القبر، فقال له أحمد: يا هذا إن القراءة عند القبر بدعة، فلما خرجنا من المقابر قال محمد بن قدامة لأحمد بن حنبل: يا أبا عبد اللّه ما تقول في مبشر الحلبي؟ قال: ثقة، قال: كتبت عنه شيئا؟
قال: نعم، فأخبرني مبشر عن عبد الرحمن بن العلاء بن اللجلاج عن أبيه أنه أوصى إذا دفن [أن] [27] يقرأ عند رأسه بفاتحة البقرة وخاتمتها، وقال: سمعت ابن عمر يوصي بذلك. فقال له أحمد فارجع وقل للرجل يقرأ [28]. (و قال) الحسن بن الصباح الزعفراني: سألت الشافعي عن القراءة عند القبر، فقال: لا بأس بها [29].
(و ذكر) الخلال عن الشعبي قال: كانت الأنصار إذا مات لهم الميت اختلفوا إلى قبره يقرؤون عنده القرآن. قال: وأخبرني أبو يحيى الناقد قال: سمعت الحسن بن الجروي يقول: مررت على قبر أخت لي، فقرأت عندها (تبارك) لما يذكر فيها، فجاءني رجل فقال: إني رأيت أختك في المنام تقول: جزى اللّه أبا علي خيرا، فقد انتفعت بما قرأ.
(أخبرني) الحسن بن الهيثم قال: سمعت أبا بكر بن الأطروش ابن بنت أبي نضر بن التمار يقول: كان رجل يجيء إلى قبر أمه يوم الجمعة فيقرأ سورة يس، فجاء في بعض أيامه فقرأ سورة يس، ثم قال: اللهم إن كنت قسمت لهذه السورة ثوابا فاجعله في أهل هذه المقابر، فلما كان في الجمعة التي تليها جاءت امرأة فقالت: أنت فلان ابن فلانة؟ قال: نعم، قالت: إن بنتا لي ماتت فرأيتها في النوم جالسة على شفير قبرها فقلت: ما أجلسك هاهنا؟ فقالت: إن فلان بن فلانة جاء إلى قبر أمه فقرأ سورة يس وجعل ثوابها لأهل المقابر فأصابنا من روح ذلك، أو غفر لنا أو نحو ذلك.
(و في النسائي) وغيره من حديث معقل بن يسار المزني عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم أنه قال: «اقرؤوا «يس» عند موتاكم» [30] وهذا يحتمل أن يراد به قراءتها على المحتضر عند موته مثل قوله: لقنوا موتاكم لا إله إلا اللّه. ويحتمل أن يراد به القراءة عند القبر، والأول أظهر لوجوه: (أحدها) أنه نظير قوله: «لقنوا موتاكم لا إله إلا اللّه» [31].
(الثاني) انتفاع المحتضر بهذه السورة لما فيها من التوحيد والعاد والبشرى بالجنة لأهل التوحيد وغبطة من مات عليه بقوله ﴿قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ۝26بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ۝27 [36:26—27] فتستبشر الروح بذلك فتحب لقاء اللّه فيحب اللّه لقاءها فإن هذه السورة قلب القرآن، ولها خاصية عجيبة في قراءتها عند المحتضر.
و قد ذكر أبو الفرج بن الجوزي قال: كنا عند شيخنا أبي الوقت عبد الأول وهو في السياق، وكان آخر عهدنا به أنه نظر إلى السماء وضحك وقال: (يا ليت قومي يعلمون بما غفر لي ربي وجعلني من المكرمين) وقضى.
(الثالث) أن هذا عمل الناس وعادتهم قديما وحديثا يقرؤون «يس» عند المحتضر.
(الرابع) أن الصحابة لو فهموا من قوله صلى اللّه عليه وآله وسلم: «اقرؤوا «يس» عند موتاكم» [32]، قراءتها عند القبر: لما أخلوا به وكان ذلك أمرا معتادا مشهورا بينهم.
(الخامس) إن انتفاعه باستماعها وحضور قلبه وذهنه عند قراءتها في آخر عهده بالدنيا هو المقصود، وأما قراءتها عند قبره فإنه لا يثاب على ذلك، لأن الثواب إما بالقراءة أو بالاستماع وهو عمل وقد انقطع من الميت.
و قد ترجم الحافظ أبو محمد عبد الحق الإشبيلي على هذا فقال: ذكر ما جاء أن الموتى يسألون عن الأحياء ويعرفون أقوالهم وأعمالهم ثم قال: ذكر أبو عمر ابن عبد البر من حديث ابن عباس عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم: «ما من رجل يمر بقبر أخيه المؤمن كان يعرفه فيسلم عليه إلا عرفه ورد عليه السلام». ويروي هذا من حديث أبي هريرة مرفوعا قال: «فإن لم يعرفه وسلّم عليه رد عليه السلام».
(قال) ويروى من حديث عائشة رضي اللّه تعالى عنها أنها قالت: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم: «ما من رجل يزور قبر أخيه فيجلس عنده إلا استأنس به حتى يقوم».
و احتج الحافظ أبو محمد في هذا الباب بما رواه أبو داود في سننه عن أبي هريرة قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم: «ما من أحد يسلم عليّ إلا رد اللّه عليّ روحي حتى أرد عليه السلام» [33]. وقال سليمان بن نعيم رأيت النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم في النوم فقلت: يا رسول اللّه هؤلاء الذين يأتونك ويسلمون عليك أتفقه منهم؟ قال: نعم وأرد عليهم، وكان صلى اللّه عليه وآله وسلم يعلمهم أن يقولوا إذا دخلوا المقابر: «السلام عليكم أهل الديار [34] الحديث: قال وهذا يدل على أن الميت يعرف سلام من يسلم عليه ودعاء من يدعو له. (قال أبو محمد) ويذكر عن الفضل بن الموفق قال: كنت آتي قبر أبي المرة بعد المرة فأكثر من ذلك، فشهدت يوما جنازة في المقبرة التي أدفن فيها، فتعجلت لحاجتي ولم آته، فلما كان من الليل رأيته في المنام فقال لي: يا بني لم لا تأتيني؟
قلت له: يا أبت وأنك لتعلم بي إذا أتيتك؟ قال: أي واللّه يا بني، لا أزال أطلع عليك حين تطلع من القنطرة حتى تصل إلي وتقعد عندي ثم تقوم، فلا أزال أنظر إليك حتى تجوز القنطرة.
قال ابن أبي الدنيا: حدثني إبراهيم بن بشار الكوفي قال: حدثني الفضل بن الموفق فذكر القصة.
و صح عن عمرو بن دينار أنه قال: ما من ميت يموت إلا وهو يعلم ما يكون في أهله بعده وأنهم ليغسلونه ويكفنونه وأنه لينظر إليهم.
و صح عن مجاهد أنه قال: إن الرجل ليبشر في قبره بصلاح ولده من بعده.

هامش

 

  روى البخاري في صحيحه في كتاب الجنائز باب ما جاء في عذاب القبر (2/ 101): حدثنا علي بن عبد اللّه، حدثنا يعقوب بن إبراهيم حدثني أبي عن صالح، حدثني نافع: أن ابن عمر رضي اللّه عنهما أخبر وقال: اطلع النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم على أهل القليب فقال: «وجدتم ما وعد ربكم حقا؟» فقيل له: أ تدعو أمواتا؟ فقال: «ما أنتم بأسمع منهم ولكن لا يجيبون».
و روى مسلم في صحيحه في كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها (8/ 163) قال: حدثني إسحاق بن عمر بن سليط الهذلي، حدثنا سليمان بن المغيرة عن ثابت قال: قال أنس كنت مع عمر (ح) وحدثنا شيبان بن فروخ (و اللفظ له): حدثنا سليمان بن المغيرة عن ثابت عن أنس بن مالك قال: كنا مع عمر بين مكة والمدينة، فتراءينا الهلال، وكنت رجلا حديد البصر، فرأيته وليس أحد يزعم أنه رآه غيري، قال: فجعلت أقول لعمر: أ ما تراه؟ فجعل لا يراه، قال: يقول عمر: سأراه وأنا مستلق على فراشي، ثم أنشأ يحدثنا عن أهل بدر فقال: إن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم كان يرينا مصارع أهل بدر بالأمس يقول: «هذا مصرع فلان غدا إن شاء اللّه»، قال: فقال عمر: فو الذي بعثه بالحق ما أخطئوا الحدود التي حد رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم قال: فجعلوا في بئر بعضهم على بعض، فانطلق رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم حتى انتهى إليهم فقال: «يا فلان بن فلان ويا فلان بن فلان، هل وجدتم ما وعدكم اللّه ورسوله حقا؟ فإني وجدت ما وعدني اللّه حقا» قال عمر: يا رسول اللّه كيف تكلم أجسادا لا أرواح فيها!، قال: «ما أنتم بأسمع لما أقول منهم غير أنهم لا يستطيعون أن يردوا عليّ شيئا».
قال النووي رحمه اللّه: قوله عليه الصلاة والسلام: «هذا مصرع فلان» الخ ... هذا من معجزاته صلى اللّه عليه وآله وسلم الظاهرة.

    روى أبو داود في سننه في كتاب الجنائز باب المشي في النعل بين القبور برقم 3231 قال: حدثنا محمد بن سليمان الأنباري، حدثنا عبد الوهاب- يعني ابن عطاء- عن سعيد عن قتادة عن أنس عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم أنه قال: «إن العبد إذا وضع في قبره وتولى عنه أصحابه إنه ليسمع قرع نعالهم».
و أخرجه البخاري في كتاب الجنائز باب الميت يسمع خفق النعال (2/ 113) وفي باب ما جاء في عذاب القبر. كما أخرجه مسلم في كتاب الجنة باب عرض مقعد الميت (8/ 162) عن أنس بن مالك قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم: «إن الميت إذا وضع في قبره إنه يسمع خفق نعالهم إذا انصرفوا».
و أخرجه النسائي في كتاب الجنائز باب المسألة في القبر وباب مسألة الكافر (2051 و2053).

    أخرجه مسلم في صحيحه في كتاب الطهارة برقم 249 وأخرجه أبو داود في كتاب الجنائز باب ما يقول: إذا زار القبور أو مر بها، وأخرجه ابن ماجه في كتاب الزهد باب ذكر الحوض برقم 4306 ولفظه: حدثنا محمد بن بشار، حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة عن العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة رضي اللّه عنه عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم أنه أتى المقبرة فسلم على المقبرة فقال: «السلام عليكم دار قوم مؤمنين، وإنا إن شاء اللّه تعالى بكم لاحقون» ثم قال: «لوددنا أنا قد رأينا إخواننا» قالوا: يا رسول اللّه، أو لسنا إخوانك؟ قال: «أنتم أصحابي، وإخواني الذين يأتون من بعدي، وأنا فرطكم على الحوض» قالوا: يا رسول اللّه، كيف تعرف من لم يأت من أمتك؟ قال:
«أ رأيتم لو أن رجلا له خيل غر محجلة بين ظهراني خيل وهم بهم، أ لم يكن يعرفها؟» قالوا: بلى، قال: «فإنهم يأتون يوم القيامة غرا محجلين من أثر الوضوء» قال: «أنا فرطكم على الحوض» ثم قال:
«ليذادن رجال عن حوضي كما يذاد البعير، فأناديهم: ألا هلموا، فيقال: إنهم قد بدلوا بعدك، ولم يزالوا يرجعون على أعقابهم فأقول: ألا سحقا سحقا».

    هو أبو عبد اللّه بكر بن عبد اللّه المزني الفقيه، روى عن المغيرة ابن شعبة وجماعة، توفي سنة ثمان ومائة، وقيل سنة ست.

    أدلج: أي سار من أول الليل، والاسم: الدلج، بفتحتين، والدّلجة والدّلجة بوزن الجرعة والضربة، وأدلج بتشديد الدال: سار من آخره.

    زيادة على المطبوع لعدم وضوح العبارة في الأصل.

    الوشاح بالضم والكسر: كرسان من لؤلؤ وجوهر منظومان يخالف بينهما، معطوف أحدهما على الآخر، وأديم عريض يرصع بالجوهر، تشده المرأة بين عاتقيها وكشحيها، جمع وشح وأوشحة ووشائح، وقد توشحت المرأة واتشحت ووشحتها توشيحا.

    السحنة: الهيئة.

    يقال: ذخرته ذخرا: من باب نفع، والاسم: الذخر، بالضم، إذا أعددته لوقت الحاجة إليه، وأذخرته على افتعلت مثله، وهو مذخور وذخيرة أيضا، وجمع الذخر: أذخار، مثل قفل وأقفال، وجمع الذخيرة: ذخائر.

    الوحشة: الخلوة والهم، وقد أوحشه اللّه فاستوحش، وأوحش المنزل: أقفر وذهب عنه الناس.

    البرزخ: هو الحاجز بين الشيئين، ومن وقت الموت إلى القيامة، ومن مات دخله، وبرازخ الإيمان:
ما بين أوله وآخره، أو ما بين الشك واليقين.

    الإستبرق: هو الديباج الغليظ، وهو فارسي معرب، وتصغيره أبيرق.

    وهو يوم القيامة.

    زيارة القبور للرجال مستحبة، لما رواه الإمام أحمد ومسلم وأصحاب السنن عن عبد اللّه بن بريدة عن أبيه أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم قال: «كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها فإنها تذكركم بالآخرة» والنبي صلى اللّه عليه وآله وسلم نهاهم أول الأمر عن زيارة القبور لقرب عهدهم بالجاهلية، فلما اطمأنوا إلى الإسلام وعرفوا أحكامه وحدوده وطبقوها كان الأمر بزيارة القبور للاعتبار والاتعاظ فترقق القلب وتصفي النفس وتقلل من خطر الدنيا في نفس المؤمن. أما زيارة النساء للقبور فقد روى الحاكم والبيهقي والإمام أحمد عن عبد اللّه بن أبي مليكة أن السيدة عائشة رضي اللّه عنها أقبلت ذات يوم من المقابر، فقلت: يا أم المؤمنين، من أين أقبلت؟
قالت: من قبر أخي عبد الرحمن، فقلت لها: أ ليس كان نهى رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم عن زيارة القبور؟ قالت: نعم، كان نهى عن زيارة القبور ثم أمر بزيارتها.
ذكره قوم زيارة النساء للقبور لما رواه الإمام أحمد وابن ماجه والترمذي، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم: «لعن اللّه زوارات القبور».
قال القرطبي: اللعن المذكور في الحديث إنما هو للمكثرات من الزيارة لما تقتضيه الصيغة من المبالغة، ولعل السبب ما يفضي إليه ذلك من تضييع حق الزوج والتبرج وما ينشأ من الصياح ونحو ذلك.
قال الشوكاني: وهذا الكلام هو الذي ينبغي اعتماده في الجمع بين أحاديث الباب المتعارضة في الظاهر.

    الحاقن هو الذي به بول شديد، يقال: احتقن المريض: أي احتبس بوله فاستعمل الحقنة.

    هو الإمام العلم أبو عبد الرحمن عبد اللّه بن المبارك الحنظلي مولاهم المروزي الفقيه الحافظ الزاهد ذو المناقب سمع هشام بن عروة وحميد الطويل وهذه الطبقة وصنف التصانيف الكثيرة وحديثه نحو عشرين ألف حديث، قال أحمد بن حنبل: لم يكن في زمان ابن المبارك أطلب للعلم منه، وقال شعبة: ما قدم علينا مثله، وقال أبو إسحاق الفزاري: ابن المبارك أطلب للعلم منه، وقال شعبة: ما قدم علينا مثله.
و عن شعيب بن حرب قال: ما لقي ابن المبارك مثل نفسه، وكانت له تجارة واسعة، كان ينفق على الفقراء في السنة مائة ألف درهم، قال ابن ناصر الدين: الإمام العلّامة الحافظ شيخ الإسلام وأحد أئمة الأنام ذو التصانيف النافعة والرحلة الواسعة، حدث عنه ابن منيع وابن معين وأحمد بن حنبل وغيرهم، جمع العلم والفقه والأدب والنحو واللغة والشعر وفصاحة العرب مع قيام الليل والعبادة.
قال ابن الأهدل: تفقه بسفيان الثوري ومالك بن أنس وروى عنه الموطأ، وكان كثير الانقطاع في الخلوات شديد الورع. توفي سنة إحدى وثمانين ومائة وله ثلاث وستون سنة، قيل مات بهيت- بالكسر- بلد بالعراق منصرفا من غزوة، وقيل مات في برية سائحا مختارا للعزلة.
قال في العبر: كان أستاذه تاجرا فتعلم منه، وكان أبوه تركيا وأمه خوارزمية.
(انظر شذرات الذهب 1/ 295).

    يقال: شيء خضل أي رطب، والخضل: النبات الناعم، وأخضل الشي ء اخضلالا واخضوضل:
أي ابتل.

    أي تبيحه.

    الحور: الرجوع.

    أخرج الإمام أحمد ومسلم وغيرهما عن بريدة قال: كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم يعلمهم إذا خرجوا إلى المقابر أن يقول قائلهم: «السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، وإنا إن شاء اللّه بكم لاحقون أنتم فرطنا ونحن تبع لكم، ونسأل اللّه لنا ولكم العافية» وروى الترمذي عن ابن عباس أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم مر بقبور المدينة، فأقبل عليهم بوجهه فقال: «السلام عليكم يا أهل القبور، يغفر اللّه لنا ولكم، أنتم سلفنا ونحن بالأثر».

    وردت في المطبوع: يوم ولعله كما أثبتناه.

    وردت في مسلم: في سياقة الموت، قال النووي: أي حال حضور الموت.

    قال النووي: قوله على أطباق ثلاث أي على أحوال، فلهذا أنت ثلاثا إرادة لمعنى أطباق.

    وردت في مسلم: فشنوا على التراب شنا، وضبط النص بالشين والسين، ومعناه على الأول: فرقوا عليّ التراب، ومعناه على الثاني: صبوا عليّ التراب، والمراد به المنع من الترصيص على القبر بنحو طين وآجر.

    قال في المصباح: الجزور هي الناقة التي تنحر.

    انظر صحيح مسلم كتاب الإيمان باب كون الإسلام بهدم ما قبله وكذا الهجرة والحج (1/ 78).

    زيادة على المطبوع لسياق العبارة.

    أخرج ابن ماجه برقم 242 عن أبي هريرة قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم: «إن مما يلحق المؤمن من عمله وحسناته بعد موته، علما علمه ونشره، وولدا صالحا تركه، ومصحفا ورثه، أو مسجدا بناه، أو بيتا لابن السبيل بناه، أو نهرا أجراه، أو صدقة أخرجها من ماله في صحته وحياته يلحقه من بعد موته».
و من المتفق عليه أن الميت ينتفع بما كان سببا فيه من أعمال البر في حياته ومنها قراءة القرآن وهذا رأي جمهور من أهل السنة، قال النووي: المشهور من مذهب الشافعي أنه لا يصل. و ذهب أحمد بن حنبل وجماعة من أصحاب الشافعي إلى أنه يصل، فالاختيار أن يقول القارئ بعد فراغه: اللهم أوصل مثل ثواب ما قرأته إلى فلان.
و قال ابن قدامة في المغني: قال أحمد بن حنبل: الميت يصل إليه كل شي ء من الخير للنصوص الواردة فيه، ولأن المسلمين يجتمعون في كل عصر ويقرؤون ويهدون لموتاهم من غير نكير فكان إجماعا. والقائلون بوصول ثواب القراءة إلى الميت يشترطون أن لا يأخذ القارئ على قراءته أجرا، فإن أخذ القارئ أجرا على قراءته حرم على المعطي والآخذ ولا ثواب له على قراءته لما رواه أحمد والطبراني والبيهقي عن عبد الرحمن بن شبل أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم قال: «اقرؤوا القرآن واعملوا ... ولا تجفوا عنه ولا تغفلوا فيه ولا تأكلوا به ولا تستكثروا به».

    اختلف الفقهاء في حكم قراءة القرآن عند القبر، فذهب الشافعي ومحمد بن الحسن إلى استحبابها، وقال بذلك أيضا القاضي عياض والقرافي من المالكية، وقال الإمام أحمد: لا بأس بها. وكرهها مالك وأبو حنيفة لعدم ورود السنّة بها.

    أخرجه ابن ماجه في كتاب الجنائز باب ما يقال عند المريض إذا حضر برقم 1448 بلفظ: «اقرءوها عند موتاكم» يعني يس. وهو حديث ضعيف.

    أخرجه النسائي في كتاب الجنائز باب تلقين الميت (4/ 5) وأخرجه ابن ماجه في كتاب الجنائز باب ما جاء في تلقين الميت لا إله إلا اللّه برقم 1444 و1445، وأخرجه الترمذي في كتاب الجنائز باب ما جاء في تلقين المريض عند الموت والدعاء له عنده برقم 976، كما أخرجه مسلم في كتاب الجنائز برقم 1، وأخرجه أبو داود في كتاب الجنائز باب في التلقين برقم 3117.

    أخرج الإمام أحمد وأبو داود والنسائي والحاكم وابن حبان عن معقل بن يسار رضي اللّه عنه أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم قال: «يس قلب القرآن، لا يقرأها رجل يريد اللّه والدار الآخرة إلا غفر له، واقرؤوها على موتاكم».

    أخرجه أبو داود برقم 2041.

  أخرج أبو داود برقم 3237 عن أبي هريرة أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم خرج إلى المقبرة فقال: السلام عليكم دار قوم مؤمنين وإنا إن شاء اللّه بكم لاحقون».
و أخرج الترمذي برقم 1053 عن ابن عباس قال: مر رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم بقبور المدينة، فأقبل عليهم بوجهه فقال: «السلام عليكم يا أهل القبور، يغفر اللّه لنا ولكم، أنتم سلفنا ونحن بالأثر».
و أخرج ابن ماجه عن السيدة عائشة رضي اللّه عنها قالت: فقدته (تعني النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم) فإذا هو بالبقيع، فقال: «السلام عليكم دار قوم مؤمنين، أنتم فرط لنا، وإنا بكم لاحقون، اللهم لا تحرمنا أجرهم ولا تفتنا بعدهم».
قال الخطابي في معالم السنن: وأما قوله «و إنا إن شاء اللّه بكم لاحقون» فقد قيل أن ذلك ليس على معنى الاستثناء الذي يدخل الكلام لشك وارتياب، ولكنه عادة المتكلم يحسن بذلك كلامه ويزينه، كما يقول الرجل لصاحبه: إنك إن أحسنت إلي شكرتك إن شاء اللّه، وإن ائتمنتني لم أخنك إن شاء اللّه، في نحو ذلك من الكلام، وهو لا يريد به الشك في كلامه، وقد قيل أنه دخل المقبرة ومعه قوم مؤمنون متحققون بالإيمان والآخرون يظنون بهم النفاق، فكان استثناؤه منصرفا إليهم دون المؤمنين، فمعناه اللحوق بهم في الإيمان، وقيل أن الاستثناء إنما وقع في استصحاب الإيمان إلى الموت لا في نفس الموت.

 


المسألة الأولى


هل تعرف الأموات زيارة الأحياء وسلامهم أم لا | فصل تلقين الميت

 

 

3.


المسألة الثانية (و هي: أن أرواح الموتى هل تتلاقى وتتزاور وتتذاكر أم لا)

و هي أيضا مسألة شريفة كبيرة القدر، وجوابها أن الأرواح قسمان: أرواح معذبة وأرواح منعمة، فالمعذبة في شغل بما هي فيه من العذاب عن التزاور والتلاقي، والأرواح المنعمة المرسلة غير المحبوسة تتلاقى وتتزاور وتتذاكر ما كان منها في الدنيا وما يكون من أهل الدنيا فتكون كل روح مع رفيقها الذي هو على مثل عملها، وروح نبينا محمد صلى اللّه عليه وآله وسلم في الرفيق الأعلى، قال اللّه تعالى: ﴿وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَـئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَـئِكَ رَفِيقًا﴾ [4:69] وهذه المعية ثابتة في الدنيا، وفي دار البرزخ، وفي دار الجزاء، والمرء مع من أحب في هذه الدور الثلاثة.
(و روى) جرير عن منصور عن أبي ضحى بن مسروق قال: قال أصحاب محمد صلى اللّه عليه وآله وسلم: ما ينبغي لنا أن نفارقك في الدنيا فإذا مت رفعت فوقنا فلم نرك فأنزل اللّه تعالى: ﴿وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَـئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَـئِكَ رَفِيقًا﴾ [4:69].
(و قال الشعبي) جاء رجل من الأنصار وهو يبكي إلى النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم فقال: «ما يبكيك يا فلان»؟ فقال: يا نبي اللّه واللّه الذي لا إله إلا هو لأنت أحب إلي من أهلي ومالي، واللّه الذي لا إله إلا هو لأنت أحب إليّ من نفسي وأنا أذكرك وأنا وأهلي فيأخذني كذا حتى أراك، فذكرت موتك وموتي فعرفت أني لن أجامعك إلا في الدنيا وأنك ترفع في النبيين وعرفت أني إن دخلت الجنة كنت في منزل أدنى من منزلك، فلم يرد النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم شيئا فأنزل اللّه تعالى ﴿ومَنْ يُطِعِ اللَّهَ والرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ والصِّدِّيقِينَ والشُّهَداءِ والصَّالِحِينَ﴾[4:69] إلى قوله ﴿وَكَفَىٰ بِاللَّهِ عَلِيمًا﴾[4:70] وقال تعالى ﴿يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ۝27ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً۝28فَادْخُلِي فِي عِبَادِي۝29وَادْخُلِي جَنَّتِي۝30 [89:27—30] أي ادخلي في جملتهم كوني معهم وهذا يقال للروح عند الموت.
(و في قصة الإسراء) من حديث عبد اللّه بن مسعود قال: لما أسري بالنبي صلى اللّه عليه وآله وسلم لقي إبراهيم وموسى وعيسى صلوات اللّه وسلامه عليهم أجمعين، فتذاكروا الساعة، فبدؤوا بإبراهيم فسألوه عنها فلم يكن عنده منها علم، ثم بموسى فلم يكن عنده منها علم، حتى أجمعوا الحديث إلى عيسى، فقال عيسى: عهد اللّه فيما إليّ فيما دون وجبتها فذكر خروج الدجال، قال: فأهبط فأقتله، ويرجع الناس إلى بلادهم فتستقبلهم يأجوج ومأجوج وهم من كل حدب ينسلون، فلا يمرون بماء إلا شربوه، ولا يمرون بشي ء إلا أفسدوه، فيجأرون إلي فأدعو اللّه فيميتهم، فتجأر الأرض إلى اللّه من ريحهم، ويجأرون إليّ فأدعو ويرسل اللّه السماء بالماء فيحمل أجسامهم فيقذفها في البحر، ثم ينسف الجبال ويمد الأرض مد الأديم، فعهد اللّه إليّ إذا كان كذلك، فإن الساعة من الناس كالحامل المتم لا يدري أهلها متى تفجؤهم بولادتها ليلا أو نهارا، ذكره الحاكم والبيهقي وغيرهما.
و هذا نص في تذاكر الأرواح العلم. و قد أخبر اللّه سبحانه وتعالى عن الشهداء بأنهم أحياء عند ربهم يرزقون، وأنهم يستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم وأنهم يستبشرون بنعمة من اللّه، وفضل وهذا يدل على تلاقيهم من ثلاثة أوجه:
(أحدها) أنهم عند ربهم يرزقون وإذا كانوا أحياء فهم يتلاقون.
(الثاني) أنهم إنما استبشروا بإخوانهم لقدومهم عليهم ولقائهم لهم.
(الثالث) أن لفظ يستبشرون يفيد في اللغة أنهم يبشر بعضهم بعضا مثل يتباشرون.
و قد تواترت المرائي بذلك، (فمنها) ما ذكره صالح بن بشير قال: رأيت عطاء السلمي في النوم بعد موته فقلت له: يرحمك اللّه لقد كنت طويل الحزن في الدنيا، فقال: أما واللّه لقد أعقبني ذلك فرحا طويلا وسرورا دائما، فقلت: في أي الدرجات أنت؟ قال: مع الذين أنعم اللّه عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين.
(و قال) عبد اللّه بن المبارك: رأيت سفيان الثوري [1] في النوم فقلت له: ما فعل اللّه بك؟ قال: لقيت محمدا وحزبه.
(و قال) صخر بن راشد: رأيت عبد اللّه بن المبارك [2] في النوم بعد موته فقلت: أ ليس قدمت؟ قال: بلى، قلت: فما صنع اللّه بك؟ قال: غفر لي مغفرة أحاطت بكل ذنب، قلت: فسفيان الثوري؟ قال: بخ بخ ذاك مع الذين أنعم عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا.
(و ذكر) ابن أبي الدنيا من حديث حماد بن زيد عن هشام بن حسان عن يقظة بنت راشد قالت: كان مروان المحملي لي جارا وكان قاضيا مجتهدا، قالت:
فمات فوجدت عليه وجدا شديدا قالت: فرأيته فيما يرى النائم قلت: أبا عبد اللّه ما صنع بك ربك؟ قال: أدخلني الجنة، قلت: ثم ما ذا؟ قال: ثم رفعت إلى أصحاب اليمين، قلت: ثم ما ذا؟ قال: ثم رفعت إلى المقربين، قلت: فمن رأيت من إخوانكم؟ قال: رأيت الحسن وابن سيرين وميمون بن سياه، قال حماد: قال هشام بن حسان: فحدثتني أم عبد اللّه وكانت من خيار نساء أهل البصرة قالت:
رأيت فيما يرى النائم كأني دخلت دار حسنة ثم دخلت بستانا فذكرت من حسنه ما شاء اللّه، فإذا أنا فيه برجل متكئ على سرير من ذهب وحوله الوصفاء بأيديهم الأكاويب قالت: فإني لمتعجبة من حسن ما أرى إذ قيل هذا مروان المحملي أقبل، فوثب فاستوى جالسا على سريره قالت: واستيقظت من منامي فإذا جنازة مروان قد مر بها على بابي تلك الساعة.
و قد جاءت سنة صريحة بتلاقي الأرواح وتعارفها.
(قال) ابن أبي الدنيا: حدثني محمد بن عبد اللّه بن بزيغ، أخبرني فضل بن سليمان النميري، حدثني يحيى ابن عبد الرحمن بن أبي لبيبة عن جده قال: لما مات بشر بن البراء بن معرور [3] وجدت عليه أم بشر وجدا شديدا فقالت: يا رسول اللّه إنه لا يزال الهالك يهلك من بني سلمة فهل تتعارف الموتى فأرسل إلى بشر بالسلام؟ فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم: «نعم والذي نفسي بيده يا أم بشر، إنهم ليتعارفون كما تتعارف الطير في رءوس الشجر» وكان لا يهلك هالك من بني سلمة، جاءته أم بشر فقالت: يا فلان عليك السلام، فيقول: وعليك، فتقول: اقرأ على بشر السلام.
(و ذكر) ابن أبي الدنيا من حديث سفيان عن عمرو بن دينار عن عبيد بن عمير قال: أهل القبور يتوكفون الأخبار، فإذا أتاهم الميت قالوا: ما فعل فلان؟
فيقول: صالح، ما فعل فلان؟ يقول: صالح، ما فعل فلان؟ فيقول: أ لم يأتكم أو ما قدم عليكم؟ فيقولون: لا، فيقول: إنا للّه وإنا إليه راجعون سلك به غير سبيلنا.
(و قال) صالح المري: بلغني أن الأرواح تتلاقى عند الموت فتقول أرواح الموتى للروح التي تخرج إليها: كيف كان مأواك وفي أي الجسدين كنت في طيب أم خبيث؟ ثم بكى حتى غلبه البكاء.
(و قال) عبيد بن عمير: إذا مات الميت تلقته الأرواح يستخبرونه كما يستخبر الركب ما فعل فلان؟ ما فعل فلان؟ فإذا قال: توفي ولم يأتهم، قالوا: ذهب به إلى أمه الهاوية (و قال) سعيد بن المسيب: إذا مات الرجل استقبله ولده كما يستقبل الغائب؛ (و قال) عبيد بن عميرة أيضا: لو أني آيس من لقاء من مات من أهلي لألفاني قدمت كمدا.
(و ذكر) معاوية بن يحيى عن عبد اللّه بن سلمة أن إبراهيم المسمعي حدثه أن أبا أيوب الأنصاري حدثه أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم قال: «إن نفس المؤمن إذا قبضت تلقاه أهل الرحمة من عند اللّه كما يتلقى البشير في الدنيا فيقولون: انظروا أخاكم حتى يستريح فإنه كان في كرب شديد [4] فيسألونه: ما ذا فعل فلان؟ وما ذا فعلت فلانة؟ وهل تزوجت فلانة؟ فإذا سألوه عن رجل مات قبله قال: إنه قد مات قبلي، قالوا: إنا للّه وإنا إليه راجعون، ذهب به إلى أمه الهاوية، فبئست الأم وبئست المربية.
و قد تقدم حديث يحيى بن بسطام، حدثني مسمع بن عاصم قال: رأيت عاصما الجحدري في منامي بعد موته بسنتين فقلت: أ ليس قدمت؟ قال: بلى، قلت: وأين أنت؟ قال: أنا واللّه في روضة من رياض الجنة أنا ونفر من أصحابي نجتمع كل ليلة جمعة وصبيحتها إلى بكر بن عبد اللّه المزني [5] فنتلقى أخباركم، قلت: أجسامكم أم أرواحكم؟ قال: هيهات [6] بليت الأجسام وإنما تتلاقى الأرواح.

 

هامش

 

هو الإمام أبو عبد اللّه سفيان بن سعيد الثوري الفقيه سيد أهل زمانه علما وعملا، روى عن عمرو بن مرة وسماك بن حرب وخلق كثير، قال ابن المبارك: كتبت عن ألف شيخ ومائة شيخ، ما فيهم أفضل من سفيان. وقال أحمد بن حنبل: لا يتقدم على سفيان في قلبي أحد. ولكن سفيان كثير الحط على المنصور لظلمه، فهمّ به وأراد قتله فما أمهله اللّه. توفي رحمه اللّه تعالى في البصرة متواريا إحدى وستين ومائة قال ابن رجب: وجد في آخر القرن الرابع سفيانيون، ومناقبه تحمل مجلدات. ورآه بعضهم بعد موته فقال:
نظرت إلى ربي عيانا فقال لي ... هنيئا رضائي عنك يا ابن سعيد
لقد كنت قواما إذ أظلم الدجى ... بصبرة مشتاق وقلب عميد
فدونك فاختر أي قصد أردته ... وزرني فإني منك غير بعيد

4.

المسألة الرابعة (وهي أن الروح هل تموت أم الموت للبدن وحده)

اختلف الناس في هذا، فقالت طائفة: تموت الروح وتذوق، لأنها نفس وكل نفس ذائقة الموت، قالوا: وقد دلت الأدلة على أنه لا يبقى إلا اللّه وحده، قال تعالى: ﴿كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ۝26وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ۝27 [55:26—27]، وقال تعالى: ﴿كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ﴾[28:88]، قالوا: وإذا كانت الملائكة تموت فالنفوس البشرية أولى بالموت، قالوا: وقد قال تعالى عن أهل النار أنهم قالوا:
﴿رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ﴾[40:11] فالموتة الأولى هذه المشهودة وهي للبدن والأخرى للروح [1].
و قال الآخرون: لا تموت الأرواح فإنها خلقت للبقاء، وإنما تموت الأبدان، قالوا: وقد دلت هذه الأحاديث الدالة على نعيم الأرواح وعذابها بعد المفارقة إلى أن يرجعها اللّه في أجسادها، ولو ماتت الأرواح لا نقلع عنها النعيم والعذاب، وقد قال تعالى: ﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا ۚ بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169) فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ﴾[3:170] هذا مع القطع بأن أرواحهم قد فارقت أجسادهم وقد ذاقت الموت.
و الصواب أن يقال: موت النفوس هو مفارقتها لأجسادها وخروجها منها، فإن أريد بموتها هذا القدر فهي ذائقة الموت، وإن أريد أنها تعدم وتضمحل وتصير عدما محضا فهي لا تموت بهذا الاعتبار، بل هي باقية بعد خلقها في نعيم أو عذاب كما سيأتي إن شاء اللّه تعالى بعد هذا، وكما صرح به النص أنها كذلك حتى يردها اللّه في جسدها، وقد نظم أحمد بن الحسين الكندي هذا الاختلاف في قوله:
تنازع الناس حتى لا اتفاق لهم ... إلا على شجب والخلف في الشجب
فقيل تخلص نفس المرء سالمة ... وقيل تشرك جسم المرء في العطب
فإن قيل: فعند النفخ في الصور هل تبقى الأرواح حية كما هي أو تموت ثم تحيا؟ قيل: قد قال تعالى: ﴿وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَن شَاءَ اللَّهُ﴾[39:68] فقد استثنى اللّه سبحانه بعض من في السموات ومن في الأرض من هذا الصعق [2].
فقيل: هم الشهداء، هذا قول أبي هريرة وابن عباس وابن جبير.
و قيل: هم جبرائيل وميكائيل وإسرافيل وملك الموت، وهذا قول مقاتل وغيره.
و قيل: هم الذين في الجنة من الحور العين وغيرهم، ومن في الناس من أهل العذاب وخزنتها، قاله أبو إسحاق بن شاقلا من أصحابنا.
و قد نص الإمام أحمد على أن: الحور العين والدان لا يمتن عند النفخ في الصور، وقد أخبر سبحانه أن أهل الجنة ﴿لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَىٰ﴾[44:56]. وهذا نص على أنهم لا يموتون غير تلك الموتة الأولى، فلو ماتوا مرة ثانية لكانت موتتان، وأما قول أهل النار: ﴿رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ﴾[40:11] فتفسيره هذه الآية التي في البقرة وهي قوله تعالى: ﴿كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ۖ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ﴾[2:28] فكانوا أمواتا وهم نطف في أصلاب آبائهم وفي أرحام أمهاتهم ثم أحياهم بعد ذلك، ثم أماتهم ثم يحييهم يوم النشور، وليس في ذلك إماتة أرواحهم قبل يوم القيامة وإلا كانت ثلاث موتات، وصعق الأرواح عند النفخ في الصور لا يلزم منه موتها، ففي الحديث الصحيح أن «الناس يصعقون يوم القيامة، فأكون أول من يفيق، فإذا موسى آخذ بقائمة العرش، فلا أدري أفاق قبلي أم جوزي بصعقة يوم الطور».
فهذا صعق في موقف القيامة إذ جاء اللّه تعالى لفصل القضاء، وأشرقت الأرض بنوره، فحينئذ تصعق الخلائق كلهم، قال تعالى: ﴿فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ﴾ [52:45]، ولو كان هذا الصعق موتا لكانت موتة أخرى، وقد تنبه لهذا جماعة من الفضلاء، فقال أبو عبد اللّه القرطبي: ظاهر هذا الحديث أن هذه صعقة غشي تكون يوم القيامة، لا صعقة الموت الحادثة عن نفخ الصور، قال: قد قال شيخنا أحمد بن عمرو: ظاهر حديث النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم يدل على أن هذه الصعقة إنما هي بعد النفخة الثانية نفخة البعث، ونص القرآن يقتضي أن ذلك الاستثناء إنما هو بعد نفخة الصعق، ولما كان هذا [قول] [3] فيحتمل أن يكون موسى ممن لم يمت من الأنبياء، وهذا باطل، وقال القاضي عياض: يحتمل أن يكون المراد بهذه صعقة فزع بعد النشور حين تنشق السموات والأرض، قال: فتستقل الأحاديث والآثار، ورد عليه أبو العباس القرطبي فقال: يرد هذا قوله في الحديث الصحيح أنه حين يخرج من قبره يلقى موسى آخذا بقائمة العرش، قال: وهذا إنما هو عند نفخة الفزع.
قال أبو عبد اللّه: وقال شيخنا أحمد بن عمرو: الذي يزيح هذا الإشكال إن شاء اللّه تعالى أن الموت ليس بعدم محض، وإنما هو انتقال من حال إلى حال، ويدل على ذلك أن الشهداء بعد قتلهم وموتهم أحياء عند ربهم يرزقون، فرحين مستبشرين، وهذه صفة الأحياء في الدنيا، وإذا كان هذا في الشهداء كان الأنبياء بذلك أحق وأولى، مع أنه قد صح عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم أن الأرض لا تأكل أجساد الأنبياء، وأنه صلى اللّه عليه وآله وسلم اجتمع بالأنبياء ليلة الإسراء في بيت المقدس وفي السماء، وخصوصا بموسى، وقد أخبر بأنه ما من مسلم يسلم عليه إلا رد اللّه عليه روحه حتى يرد عليه السلام، إلى غير ذلك مما يحصل من حملته القطع بأن موت الأنبياء إنما هو رجع إلى أن غيبوا عنا، بحيث لا ندركهم، وإن كانوا موجودين أحياء، وذلك كالحال في الملائكة، فإنهم أحياء موجودون ولا تراهم، وإذا تقرر أنهم أحياء، فإذا نفخ في الصور نفخة الصعق، صعق كل من في السموات ومن في الأرض إلا من شاء اللّه، فأما صعق غير الأنبياء فموت، وأما صعق الأنبياء فالأظهر أنه غشية، فإذا نفخ في الصور نفخة البعث فمن مات حيي، ومن غشي عليه أفاق، ولذلك قال صلى اللّه عليه وآله وسلم في الحديث المتفق على صحته: «فأكون أول من يفيق، فنبينا أول من يخرج من قبره قبل جميع الناس إلا موسى»، فإنه حصل فيه تردد: هل بعث قبله من غشيته أو بقي على الحالة التي كان عليها قبل نفخة الصعق مفيقا لأنه حوسب بصعقة يوم الطور، وهذه فضيلة عظيمة لموسى، ولا يلزم من فضيلة واحدة أفضليته على نبينا مطلقا، لأن الشي ء الجزئي لا يوجب أمرا كليا، انتهى.
قال أبو عبد اللّه القرطبي: إن حمل الحديث على صعقة الخلق يوم القيامة فلا إشكال، وإن حمل على صعقة الموت عند النفخ في الصور فيكون ذكر يوم القيامة يراد به أوائله، فالمعنى: إذا نفخ في الصور نفخة البعث كنت أول من يرفع رأسه، فإذا موسى أخذ بقائمة من قوائم العرش، فلا أدري أفاق قبل أم جوزي بصعقة الطور.
قلت: وحمل الحديث على هذا يصح، لأنه صلى اللّه عليه وآله وسلم تردد: هل أفاق موسى قبله أم لم يصعق بل جوزي بصعقة الطور؟ فالمعنى:
لا أدري أصعق أم لم يصعق، وقد قال في الحديث: «فأكون أول من يفيق» وهذا يدل على أنه صلى اللّه عليه وآله وسلم يصعق فيمن يصعق، وأن التردد حصل في موسى: هل يصعق وأفاق قبله من صعقته أم لم يصعق. ولو كان المراد به الصفة الأولى وهي صعقة الموت لكان صلى اللّه عليه وآله وسلم قد جزم بموته، وتردد هل مات موسى أم لم يمت، وهذا باطل لوجوه كثيرة، فعلم أنها صعقة فزع لا صعقة موت، وحينئذ فلا تدل الآية على أن الأرواح كلها تموت عند النفخة الأولى، نعم تدل على أن موت الخلائق عند النفخة الأولى، وكل من لم يذق الموت قبلها فإنه يذوقه حينئذ، وأما من ذاق الموت أو من لم يكتب عليه الموت فلا تدل الآية على أنه يموت موتة ثانية واللّه أعلم.
(فإن قيل): فكيف تصنعون بقوله في الحديث: «إن الناس يصعقون يوم القيامة، فأكون أول من تنشق عنه الأرض، فأجد موسى باطشا بقائمة العرش» قيل: لا ريب أن هذا اللفظ قد ورد هكذا، ومنه نشأ الإشكال، ولكنه دخل فيه على الراوي حديث في حديث، فركب بين اللفظين فجاء هذا والحديثان هكذا: (أحدهما) أن الناس يصعقون يوم القيامة فأكون أول من يفيق.
(و الثاني) هكذا: أنا أول من تنشق عنه الأرض يوم القيامة، ففي الترمذي وغيره من حديث أبي سعيد الخدري قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم: «أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر، وبيدي لواء الحمد ولا فخر، وما من نبي يومئذ آدم فمن سواه إلا تحت لوائي، وأنا أول من تنشق عنه الأرض ولا فخر» قال الترمذي: حديث حسن صحيح [4].
فدخل على الراوي هذا الحديث في الحديث الآخر، وكان شيخنا أبو الحجاج الحافظ يقول ذلك.
فإن قيل: فما تصنعون بقوله: «فلا أدري أفاق قبلي أم كان ممن استثنى اللّه عز وجل» والذين استثناهم اللّه إنما هم مستثنون من صعقة النفخة لا من صعقة يوم القيامة كما قال اللّه تعالى: ﴿وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَن شَاءَ اللَّهُ﴾[39:68]، ولم يقع الاستثناء من صعقة الخلائق يوم القيامة.
قيل: هذا واللّه أعلم غير محفوظ، وهو وهم من بعض الرواة، والمحفوظ ما تواطأت الروايات الصحيحة من قوله: «فلا أدري أفاق قبلي أم جوزي بصعقة الطور» فظن بعض الرواة أن هذه الصعقة هي صعقة النفخة، وأن موسى داخل فيمن استثنى منها، وهذا لا يلتئم على مساق الحديث قطعا، فإن الإفاقة حينئذ هي إفاقة البعث، فكيف يقول: «لا أدري أبعث قبلي أم جوزي بصعقة الطور» فتأمله، وهذا بخلاف الصعقة التي يصعقها الخلائق يوم القيامة إذا جاء اللّه سبحانه لفصل القضاء بين العباد وتجلى لهم فإنهم يصعقون جميعا، وأما موسى عليه السلام فإن كان لم يصعق معهم فيكون قد حوسب بصعقته يوم تجلى ربه للجبل فجعله دكا [5]، فجعلت صعقة هذا التجلي عوضا من صعقة الخلائق لتجلي الرب يوم القيامة، فتأمل هذا المعنى العظيم ولو لم يكن في الجواب إلا كشف هذا الحديث و شأنه لكان حقيقا أن يعض عليه بالنواجذ وللّه الحمد والمنّة وبه التوفيق.

هامش

 

  قال ابن مسعود وابن عباس وقتادة: الموتة الأولى حين كانوا في العدم، والموتة الثانية حين ماتوا في الدنيا، والحياة الأولى حياة الدنيا، والحياة الثانية حياة البعث يوم القيامة، فهاتان موتتان وحياتان.
و يوضح أيضا هذا المعنى قوله تعالى: ﴿كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ۖ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ﴾[2:28].

    قال المفسرون أن ممن يستثنى من هذا الصعق (و اللّه أعلم) حملة العرش والحور العين والولدان المخلدون.

    وردت في المطبوع: قال.

    انظر سنن الترمذي رقم 2434 و3148 و3615.

  قال تعالى: ﴿وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [7:143]

 

 

5.

المسألة الخامسة (و هي: أن الأرواح بعد مفارقة الأبدان إذا تجردت، بأي شي ء يتميز بعضها من بعض حتى تتعارف وتتلاقى، وهل تشكل إذا تجردت بشكل بدنها الذي كانت فيه وتلمس صورته أم كيف يكون حالها؟)

هذه مسألة لا تكاد تجد من تكلم فيها ولا يظفر فيها من كتب الناس بطائل ولا غير طائل، ولا سيما على أصول من يقول بأنها مجردة عن المادة وعلائقها، وليست بداخل العالم ولا خارجه، ولا لها شكل ولا قدر ولا شخص، فهذا السؤال على أصولهم مما لا جواب لهم عنه، وكذلك من يقول: هي عرض من أعراض البدن فتميزها عن غيرها مشروط بقيامها ببدنها، فلا تميز لها بعد الموت، بل لا وجود لها على أصولهم، بل تعدم وتبطل باضمحلال البدن، كما تبطل سائر صفات الحي، ولا يمكن جواب هذه المسألة إلا على أصول أهل العينة التي تظاهرت عليها أدلة القرآن والسنّة والآثار والاعتبار والعقل، والقول أنها ذات قائمة بنفسها تصعد وتنزل وتتصل وتنفصل وتخرج وتذهب وتجيء وتتحرك وتسكن، وعلى هذا أكثر من مائة دليل، وقد ذكرنا في كتابنا الكبير في معرفة الروح والنفس، وبينا بطلان ما خالف هذا القول من وجوه كثيرة، وأن من قال غيره لم يعرف نفسه.
و قد وصفها اللّه سبحانه وتعالى بالدخول والخروج، والقبض والتوفي، والرجوع وصعودها إلى السماء، وفتح أبوابها لها وغلقها عنها، فقال تعالى: ﴿وَلَوْ تَرَىٰ إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمُ﴾[6:93] وقال تعالى: ﴿يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ۝27ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً۝28فَادْخُلِي فِي عِبَادِي۝29وَادْخُلِي جَنَّتِي۝30 [89:27—30]. وهذا يقال لها عند المفارقة للجسد، وقال تعالى: ﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا۝7فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا۝8 [91:7—8]. فأخبر أنه سوى النفس كما أخبر أنه سوى البدن في قوله: ﴿الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ﴾ [82:7] فهو سبحانه سوى نفس الإنسان، كما سوى بدنه، بل سوى بدنه كالقلب لنفسه، فتسوية البدن تابع لتسوية النفس، والبدن موضوع لها كالقلب لما هو موضوع له.
و من هاهنا يعلم أنها تأخذ من بدنها صورة تتميز بها عن غيرها، فإنها تتأثر وتنتقل عن البدن، كما يتأثر البدن وينتقل عنها، فيكتسب البدن الطيب والخبيث من طيب النفس، وخبيثها وتكتسب النفس الطيب والخبيث من طيب البدن وخبثه، فأشد الأشياء ارتباطا وتناسبا وتفاعلا وتأثرا من أحدهما بالآخر الروح والبدن، ولهذا يقال عند المفارقة: أخرجي أيتها النفس الطيبة كانت في الجسد الطيب، واخرجي أيتها النفس الخبيثة [التي] [1] كانت في الجسد الخبيث.
و قال اللّه تعالى: ﴿اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا ۖ فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَىٰ عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَىٰ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى﴾[39:42] فوصفها بالتوفي والإمساك والإرسال، كما وصفها بالدخول والخروج والرجوع والتسوية، وقد أخبر النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم أن بصر الميت يتبع نفسه إذا قبضت، وأخبر أن الملك يقبضها فتأخذها الملائكة من يده، فيوجد لها كأطيب نفخة مسك وجدت على الأرض، أو كأنتن ريح جيفة وجدت على وجه الأرض [2].
و الأعراض لا ريح لها ولا تمسك ولا تؤخذ من يد إلى يد.
و أخيرا أنها تصعد إلى السماء ويصلي عليها كل ملك للّه بين السماء والأرض، وأنها تفتح لها أبواب السماء، فتصعد من سماء إلى سماء، حتى ينتهي بها إلى السماء التي فيها اللّه عز وجل، فتوقف بين يديه ويأمر بكتابة اسمه في ديوان أهل عليين، أو ديوان أهل سجين، ثم ترد إلى الأرض، وأن روح الكافر تطرح طرحا وأنها تدخل مع البدن وفي قبرها للسؤال.
و قد أخبر النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم بأن نسمة المؤمن وهي روحه طائر يعلق في شجرة الجنة حتى يردها اللّه إلى جسده [3]، وأخبر أن أرواح الشهداء في حواصل طير خضر ترد أنهار الجنة، وتأكل من ثمارها وأخبر أن الروح تنعم وتعذب في البرزخ [4] إلى يوم القيامة.
و قد أخبر سبحانه عن أرواح قوم فرعون أنها تعرض على النار غدوا وعشيا قبل يوم القيامة [5]، وقد أخبر سبحانه عن الشهداء بأنهم أحياء عند ربهم يرزقون وهذه حياة أرواحهم ورزقها دار، وإلا فالأبدان قد تمزقت، وقد فسر رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم هذه الحياة بأن أرواحهم في جوف طير خضر لها قناديل معلقة بالعرش، تسرح من الجنة حيث شاءت، ثم تأوي إلى تلك القناديل، فاطلع إليهم ربهم اطلاعه فقال: هل تشتهون شيئا؟ قالوا: أي شي ء نشتهي ونحن نسرح من الجنة حيث شئنا فعلى بهم ذلك ثلاث مرات، فلما رأوا أنهم لن يتركوا من أن يسألوا قالوا: نريد أن ترد أرواحنا في أجسادنا حتى نقتل في سبيلك مرة أخرى.
(و صح) عنه صلى اللّه عليه وآله وسلم أن أرواح الشهداء في طير خضر تعلق من ثمر الجنة وتعلق بصنم اللام أي تأكل العلقة.
و قال ابن عباس: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم: لما أصيب إخوانكم بأحد، جعل اللّه أرواحهم في أجوف طير خضر ترد أنها الجنة، وتأكل من ثمارها، وتأوي إلى قناديل من ذهب في ظل العرش، فلما وجدوا طيب مشربهم ومأكلهم وحسن مقيلهم قالوا: يا ليت إخواننا يعلمون ما صنع اللّه لنا لئلا يزهدوا في الجهاد ولا يتكلموا عن الحرب، فقال اللّه عز وجل: أنا أبلغكم عنكم فأنزل اللّه تعالى على رسوله صلى اللّه عليه وآله وسلم ﴿وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ﴾ [3:169] الآيات، رواه الإمام أحمد، وهذا صريح في أكلها وشربها وحركتها وانتقالها وكلامها، وسيأتي مزيد تقرير لذلك عن قريب إن شاء اللّه تعالى.
و إذا كان هذا شأن الأرواح فتميزها بعد المفارقة يكون أظهر من تميز الأبدان، والاشتباه بينها أبعد من اشتباه الأبدان، فإن الأبدان تشتبه كثيرا وأما الأرواح فقل ما تشتبه.
يوضح هذا أنا لم نشاهد أبدان الأنبياء والصحابة والأئمة، وهم متميزون في علمنا أظهر تميز، وليس ذلك التمييز راجعا إلى مجرد أبدانهم، وإن ذكر لنا من صفات أبدانهم ما يختص به أحدهم من الآخر، بل التمييز الذي عندنا بما علمناه وعرفناه من صفات أرواحهم وما قام بها، وتميز الروح عن الروح بصفاتها أعظم من تميز البدن عن البدن بصفاته، ألا ترى أن بدن المؤمن والكافر قد يشتبهان كثيرا، وبين روحيهما أعظم التباين والتمييز، وأنت ترى أخوين شقيقين مشتبهين في غاية الاشتباه وبين روحيهما غاية التباين، فإذا تجردت هاتان الروحان كان تميزهما غاية الظهور.
و أخبرك بأمر: إذا تأملت أحوال الأنفس والأبدان شاهدته عيانا، قل أن ترى بدنا قبيحا وشكلا شنيعا إلا وجدته مركبا على نفس تشاكله وتناسبه، وقل أن ترى آفة في بدن إلا وفي روح صاحبه آفة تناسبها، ولهذا تأخذ أصحاب الفراسة أحوال النفوس من أشكال الأبدان وأحوالها فقلّ أن تخطى ء ذلك.
(و يحكى) عن الشافعي [6] رحمه اللّه في ذلك عجائب.
و قلّ أن ترى شكلا حسنا وصورة جميلة وتركيبا لطيفا إلا وجدت الروح المتعلقة به مناسبة له، هذا ما لم يعارض ذلك ما يوجب خلافه من تعلم وتدرب واعتياد.
و إذا كانت الأرواح العلوية وهم الملائكة متميزا بعضهم عن بعض من غير أجسام تحملهم، وكذلك الجن، فتميز الأرواح البشرية أولى.

 

هامش

 

  زيادة على النص المطبوع.

    انظر مسند الإمام أحمد (4/ 287 و288).

    أخرج ابن ماجة في كتاب الجنائز رقم (1449) عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك عن أبيه قال: لما حضرت كعبا الوفاة أتته أم بشر بن البراء بن معرور فقالت: يا أبا عبد الرحمن إن لقيت فلانا فأقرأ عليه مني السلام، قال: غفر اللّه لك يا أم بشر، نحن أشغل من ذلك، قالت: يا أبا عبد الرحمن أ ما سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم يقول: «إن أرواح المؤمنين في طير خضر تعلق بشجر الجنة» قال: بلى، قالت: فهو ذاك.

    البرزخ: هو الحاجز بين الشيئين، وهو أيضا ما بين الدنيا والآخرة من وقت الموت إلى البعث، فمن مات فقد دخل البرزخ.

    قال تعالى: ﴿النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آَلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ﴾ [40:46]

  الإمام المعروف، توفي بمصر سنة 204 هـ.

 

 

 

6.

المسألة السادسة (و هي أن الروح هل تعاد إلى الميت في قبره وقت السؤال أم لا)

فقد كفانا رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم أمر هذه المسألة، وأغنانا عن أقوال الناس، بحيث صرّح بإعادة الروح إليه، فقال البراء بن عازب: كنا في جنازة في بقيع الغرقد فأتانا النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم، فقعد وقعدنا حوله، كأن على رؤوسنا الطير وهو يلحد له، فقال: «أعوذ باللّه من عذاب القبر» ثلاث مرات، ثم قال: «إن العبد إذا كان في إقبال الآخرة وانقطاع من الدنيا نزلت إليه ملائكة كأن وجوههم الشمس، فيجلسون منه مد البصر، ثم يجيء ملك الموت حتى يجلس عند رأسه فيقول: أيتها النفس الطيبة اخرجي إلى مغفرة من اللّه ورضوان، قال:
فتخرج تسيل كما تسيل القطرة من فيّ السقا فيأخذها، فإذا أخذها لم يدعوها في يده طرفة عين حتى يأخذوها، فيجعلوها في ذلك الكفن وذلك الحنوط، ويخرج منها كأطيب نفحة مسك وجد على وجه الأرض قال: فيصعدون بها، فلا يمرون بها يعني على ملأ من الملائكة إلا قالوا: ما هذا الروح الطيب؟ فيقولون فلان ابن فلان بأحسن أسماءه التي كانوا يسمونه في الدنيا حتى ينتهوا بها إلى السماء الدنيا، فيستفتحون له، فيفتح له، فيشيعه من كل سماء مقربوها إلى السماء التي تليها، حتى ينتهي بها إلى السماء التي فيها اللّه تعالى، فيقول اللّه عز وجل: اكتبوا كتاب عبدي في عليين وأعيدوه إلى الأرض، فإني منها خلقتهم، وفيها أعيدهم، ومنها أخرجهم تارة أخرى، قال: فتعاد روحه في جسده، فيأتيه ملكان فيجلسانه فيقولان له: من ربك؟ فيقول: ربي اللّه، فيقولان له: ما دينك؟ فيقول: ديني الإسلام، فيقولان له: ما هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ فيقول: هو رسول اللّه، فيقولان له:
و ما علمك بهذا؟ فيقول: قرأت كتاب اللّه فآمنت به وصدقت، فينادي مناد من السماء: أو صدق عبدي، فأفرشوه من الجنّة وافتحوا له بابا من الجنة، قال: فيأتيه من ريحها وطيبها ويفسح له في قبره مد بصره، قال: ويأتيه رجل حسن الثياب طيب الريح فيقول: أبشر بالذي يسرك هذا يومك الذي كنت توعد، فيقول له: من أنت؟ فوجهك الوجه الذي يجيء بالخير، فيقول: أنا عملك الصالح، فيقول: رب أقم الساعة حتى أرجع إلى أهلي ومالي، قال: وإن العبد الكافر إذا كان في انقطاع من الدنيا وإقبال من الآخرة نزل إليه من السماء ملائكة سود الوجوه، معهم المسوح، فيجلسون منه مد البصر، ثم يجيء ملك الموت حتى يجلس عند رأسه فيقول: أيتها النفس الخبيثة اخرجي إلى سخط من اللّه وغضب، قال: فتتفرق في جسده، فينتزعها كما ينتزع السفود [1] من الصوف المبلول، فيأخذها، فإذا أخذها لم يدعوها في يده طرفة عين حتى يجعلوها في تلك المسوح [2]، ويخرج منها كأنتن ريح جيفة وجدت على وجه الأرض، فيصعدون بها، فلا يمرون بها على ملأ من الملائكة إلا قالوا: ما هذا الريح الخبيث، فيقولون: فلان ابن فلان، بأقبح أسماءه التي كان يسمى بها في الدنيا، حتى ينتهي به إلى السماء الدنيا، فيستفتح له فلا يفتح، ثم قرأ رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم: ﴿لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّىٰ يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ﴾[7:40] فيقول اللّه عز وجل: اكتبوا كتابه في سجين في الأرض السفلى، فتطرح روحه طرحا ثم قرأ:
﴿وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ﴾[22:31] فتعاد روحه في جسده، ويأتيه ملكان فيقولان له: من ربك؟ فيقول:
هاه هاه لا أدري، فيقولان له: ما هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ فيقول: هاه هاه لا أدري، فينادي مناد من السماء أن كذب عبدي فأفرشوه من النار وافتحوا له بابا إلى النار، فيأتيه حرها وسمومها ويضيق عليه فترة حتى تختلف فيه أضلاعه، ويأتيه رجل قبيح الوجه قبيح الثياب منتن الريح فيقول: أبشر بالذي يسودك، هذا يومك الذي كنت توعد، فيقول: من أنت؟ فوجهك الوجه الذي يجيء بالشر، فيقول: أنا عملك الخبيث، فيقول: رب لا تقم الساعة» رواه الإمام أحمد وأبو داود وروى النسائي وابن ماجه أوله، ورواه أبو عوانة الأسفرائيني في صحيحه.
و ذهب إلى القول بموجب هذا الحديث جميع أهل السنّة والحديث من سائر الطوائف.
و قال أبو محمد بن حزم في كتاب (الملل والنحل) له: وأما من ظن أن الميت يحيا في قبره قبل يوم القيامة فخطأ، إن الآيات التي ذكرناها تمنع من ذلك، يعني قوله تعالى ﴿قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ﴾[40:11] وقوله تعالى ﴿كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ۖ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ﴾[2:28] قال: ولو كان الميت يحيا في قبره لكان تعالى قد أماتنا ثلاثا ثم أحيانا ثلاثا، وهذا باطل وخلاف القرآن إلا من أحياه اللّه تعالى آية لنبي من الأنبياء كالذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت فقال لهم اللّه موتوا، ثم أحياهم، والذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها، ومن خصه نص، وكذلك قوله تعالى ﴿اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا ۖ فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَىٰ عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَىٰ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى﴾[39:42] فصح بنص القرآن أن أرواح سائر من ذكرنا لا ترجع إلى جسده إلا إلى الأجل المسمى وهو يوم القيامة، وكذلك أخبر رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم أنه رأى الأرواح ليلة أسري به عند سماء الدنيا من عن يمين آدم أرواح أهل السعادة، وعن شماله أرواح أهل الشقاوة، وأخبر يوم بدر إذ خاطب الموتى أنهم قد سمعوا قوله قبل أن تكون لهم قبور، ولم ينكر على الصحابة قولهم قد جيفوا، واعلم أنهم سامعون قوله مع ذلك، فصح أن الخطاب والسماع لأرواحهم فقط بلا شك، وأما الجسد فلا حس له وقد قال تعالى ﴿وَمَا أَنتَ بِمُسْمِعٍ مَّن فِي الْقُبُورِ﴾[35:22] فنفي السمع عمن في القبور وهي الأجساد بلا شك، ولا يشك مسلم أن الذي نفى اللّه عز وجل عنه السمع هو غير الذي أثبت له رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم السمع.
قال: ولم يأت قط عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم في خبر صحيح أن أرواح الموتى ترد إلى أجسادهم عند المسألة، ولو صح ذلك عنه لقلنا به قال وإنما تفرد بهذه الزيادة من رد الأرواح في القبور إلى الأجساد منهال بن عمرو وحده، وليس بالقوي، تركه شعبة وغيره، وقال فيه المغيرة بن مقسم الضبي وهو أحد الأئمة: ما جازت للمنهال بن عمرو قط شهادة في الإسلام، على ما قد نقل وسائر الأخبار الثابتة على خلاف ذلك. قال: وهذا الذي قلنا هو الذي صح أيضا عن الصحابة.
ثم ذكر من طريق ابن عيينة عن منصور بن صفية عن أمه صفية بنت شيبة قالت: دخل ابن عمر المسجد، فأبصر ابن الزبير مطروحا قبل أن يقبر، فقيل له:
هذه أسماء بنت أبي بكر الصديق، فمال ابن عمر إليها فعزاها، وقال: إن هذه الجثث ليست بشيء، وإن الأرواح عند اللّه، فقالت أمه: وما يمنعني وقد أهدي رأس يحيى بن زكريا إلى بغي من بغايا بني إسرائيل.
(قلت) ما ذكره أبو محمد فيه حق وباطل، وأما قوله: من ظن أن الميت يحيا في قبره فخطأ، فهذا فيه إجمال إن أراد به الحياة المعهودة في الدنيا التي تقوم فيها الروح بالبدن وتدبره وتصرفه ويحتاج معها إلى الطعام والشراب واللباس فهذا خطأ كما قال والحس والعقل يكذبه كما يكذبه النص.
و إن أراد به حياة أخرى غير هذه الحياة، بل تعاد الروح إليه إعادة غير الإعادة المألوفة في الدنيا ليسأل ويمتحن في قبره فهذا حق ونفيه خطأ، وقد دل عليه النص الصحيح الصريح وهو قوله صلى اللّه عليه وآله وسلم: «فتعاد في جسده»، وسنذكر الجواب عن تضعيفه للحديث إن شاء اللّه تعالى.
و أما استدلاله بقوله تعالى: ﴿قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ﴾[40:11] فلا ينفي هذه الإعادة العارضة للروح في الجسد، كما أن قتيل بني إسرائيل الذي أحياه اللّه بعد قتله ثم أماته لم تكن تلك الحياة العارضة له للمسألة معتدا بها، فإنه حي لحظة بحيث قال: فلان قتلني ثم خرّ ميتا [3]، على أن قوله: ثم تعاد روحه في جسده لا يدل على حياة مستقرة، وإنما يدل على إعادة لها إلى البدر وتعلق به الروح لم تزل متعلقة ببدنها وإن بلي وتمزق.
و سر ذلك أن الروح لها بالبدن خمسة أنواع من التعلق مغايرة الأحكام:
(أحدها) تعلقها به في بطن الأم جنينا.
(الثاني) تعلقها به بعد خروجه إلى وجه الأرض.
(الثالث) تعلقها به في حال النوم فلها به تعلق من وجه ومفارقة من وجه.
(الرابع) تعلقها به في البرزخ فإنها وإن فارقته وتجردت عنه فإنها لم تفارقه فراقا كليا بحيث لا يبقى لها التفات إليه البتة، وقد ذكرنا في أول الجواب من الأحاديث والآثار ما يدل على ردها إليه وقت سلام المسلم، وهذا الرد إعادة خاصة لا يوجب حياة البدن قبل يوم القيامة.
(الخامس) تعلقها به يوم بعث الأجساد وهو أكمل أنواع تعلقها بالبدن ولا نسبة لما قبله من أنواع التعلق إليه إذ هو تعلق لا يقبل البدن معه موتا ولا نوما ولا فسادا.
و أما قوله تعالى: ﴿اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا ۖ فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَىٰ عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَىٰ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى﴾[39:42] فإمساكه سبحانه التي قضى عليها الموت لا ينافي ردها إلى جسدها الميت في وقت ما ردا عارضا لا يوجب له الحياة المعهودة في الدنيا.
و إذا كان النائم روحه في جسده وهو حي وحياته غير حياة المستيقظ، فإن النوم شقيق الموت، فهكذا الميت إذا أعيدت روحه إلى جسده كانت حاله متوسطة بين الحي والميت الذي لم ترد روحه إلى بدنه، كحال النائم المتوسطة بين الحي والميت، فتأمل هذا يزيح عنك إشكالات كثيرة.
و أما إخبار النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم عن رؤية الأنبياء ليلة أسري به، فقد زعم بعض أهل الحديث أن الذي رآه أشباحهم وأرواحهم قال: فإنهم أحياء عند ربهم، وقد رأى إبراهيم مسندا ظهره إلى البيت المعمور ورأى موسى قائما في قبره يصلي، وقد نعت الأنبياء لما رآهم نعت الأشباح فرأى موسى آدما ضربا طوالا كأنه من رجال شنوءة، ورأى عيسى يقطر رأسه كأنما أخرج من ديماس [4]، ورأى إبراهيم فشبهه بنفسه.
و نازعهم في ذلك آخرون وقالوا: هذه الرؤية إنما هي لأرواحهم دون أجسادهم، والأجساد في الأرض قطعا، إنما تبعث يوم بعث الأجساد، ولم تبعث قبل ذلك، إذ لو بعثت قبل ذلك لكانت قد انشقت عنها الأرض قبل يوم القيامة، وكانت تذوق الموت عند نفخة الصور، وهذه موتة ثالثة، وهذا باطل قطعا، ولو كانت قد بعثت الأجساد من القبور لم يعدهم اللّه إليها بل كانت في الجنة، وقد صح عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم: «إن اللّه حرم الجنة على الأنبياء حتى يدخلها هو، وهو أول من يستفتح باب الجنة، وهو أول من تنشق عنه الأرض على الإطلاق لم تنشق عن أحد قبله».
و معلوم بالضرورة أن جسده صلى اللّه عليه وآله وسلم في الأرض طري مطرا، وقد سأله الصحابة: كيف تعرض صلاتنا عليك وقد أرمت؟ فقال: «إن اللّه قد حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء» [5].
و لو لم يكن جسده في ضريحه لما أجاب بهذا الجواب.
و قد صح عنه أن اللّه وكّل بقبره ملائكة يبلغونه عن أمته السلام.
و صح عنه أنه خرج بين أبي بكر وعمر وقال: «هكذا نبعث».
هذا مع القطع بأن روحه الكريمة في الرفيق الأعلى في أعلى عليين مع أرواح الأنبياء.
و قد صح عنه أنه رأى موسى قائما يصلي في قبره ليلة الإسراء، ورآه في السماء السادسة أو السابعة، فالروح كانت هناك ولها اتصال بالبدن في القبر وإشراف عليه وتعلق به بحيث يصلي في قبره ويرد سلام من سلّم عليه، وهي في الرفيق الأعلى.
و لا تنافي بين الأمرين، فإن شأن الأرواح غير شأن الأبدان، وأنت تجد الروحين المتماثلتين المناسبتين في غاية التجاور والقرب، ولو كان بينهما بعد المشرقين، وتجد الروحين المتنافرتين المتباغضتين بينهما غاية البعد، وإن كان جسداهما متجاورين متلاصقين.
و ليس نزول الروح وصعودها وقربها وبعدها من جنس ما للبدن، فإنها تصعد إلى ما فوق السموات ثم تهبط على الأرض ما بين قبضها ووضع الميت في قبره وهو زمن يسير لا يصعد البدن وينزل في مثله، وكذلك صعودها وعودها إلى البدن في النوم واليقظة، وقد مثلها بعضهم بالشمس وشعاعها، فإنها في السماء وشعاعها في الأرض، وقال شيخنا: وليس هذا مثلا مطابقا، فإن نفس الشمس لا تنزل من السماء، والشعاع الذي على الأرض ليس هو الشمس ولا صفتها، بل هو عرض حصل بسبب الشمس والجرم المقابل لها، والروح نفسها تصعد وتنزل، وأما قول الصحابة للنبي صلى اللّه عليه وآله وسلم في قتلى بدر: كيف تخاطب أقواما قد جيفوا؟ مع إخباره بسماعهم كلامه، فلا ينفي ذلك رد أرواحهم إلى أجسادهم ذلك الوقت ردا يسمعون به خطابه والأجساد قد جيفت، فالخطاب للأرواح المتعلقة بتلك الأجساد التي قد فسدت.
و أما قوله تعالى: ﴿وَمَا أَنتَ بِمُسْمِعٍ مَّن فِي الْقُبُورِ﴾[35:22] فسياق الآية يدل على أن المراد منها أن الكافر الميت القلب لا تقدر على إسماعه إسماعا ينتفع به [6]، كما أن من في القبور لا تقدر على إسماعهم إسماعا ينتفعون به، ولم يرد سبحانه أن أصحاب القبور لا يسمعون شيئا البتة، كيف وقد أخبر النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم أنهم يسمعون خفق نعال المشيعين [7]، وأخبر أن قتلى بدر سمعوا كلامه وخطابه وشرع السلام عليهم بصيغة الخطاب للحاضر الذي يسمع، وأخبر أن من سلم على أخيه المؤمن رد عليه السلام.
هذه الآية نظير قوله: ﴿إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ﴾ [27:80] وقد يقال: نفي إسماع الصم مع نفي إسماع الموتى يدل على أن المراد عدم أهلية كل منهما للسماع، وأن قلوب هؤلاء لما كانت ميتة صماء كان إسماعها ممتنعا بمنزلة خطاب الميت والأصم، وهذا حق. ولكن لا ينفي إسماع الأرواح بعد الموت إسماع توبيخ وتقريع بواسطة تعلقها بالأبدان في وقت ما، فهذا غير الإسماع المنفي واللّه أعلم. وحقيقة المعنى أنك لا تستطيع أن تسمع من لم يشأ اللّه أن يسمعه إن أنت إلا نذير أي إنما جعل اللّه لك الاستطاعة على الإنذار الذي كلفك إياه لا على إسماع من لم يشأ اللّه إسماعه. و أما قوله: إن الحديث لا يصح لتفرد المنهال بن عمرو وحده به وليس بالقوي، فهذا من مجازفته رحمه اللّه، فالحديث صحيح لا شك فيه، وقد رواه عن البراء بن عازب جماعة غير زاذان، منهم عدي بن ثابت، ومحمد بن عقبة، ومجاهد.
(قال) الحافظ أبو عبد اللّه بن منده في كتاب (الروح والنفس) أخبرنا محمد بن يعقوب بن يوسف، حدثنا محمد بن إسحاق الصفار، أنبأنا أبو النضر هاشم بن القاسم، حدثنا عيسى بن المسيب عن عدي بن ثابت عن البراء بن عازب، قال: خرجنا مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم في جنازة رجل من الأنصار، فانتهينا إلى القبر ولما يلحد، فجلسنا وجلس كأن على أكتافنا فلق الصخر، وعلى رؤوسنا الطير فأرم قليلا، والإرمام السكوت، فلما رفع رأسه قال:
«إن المؤمن إذا كان في قبل من الآخرة ودبر من الدنيا وحضره ملك الموت نزلت عليه ملائكة معهم كفن من الجنة وحنوط من الجنة فجلسوا مد البصر، وجاء ملك الموت فجلس عند رأسه ثم قال: أخرجي أيتها النفس المطمئنة اخرجي إلى رحمة اللّه ورضوانه، فتنسل نفسه كما تقطر القطرة من السقاء، فإذا خرجت نفسه صلى عليه كل من بين السماء والأرض إلا الثقلين، ثم يصعد به إلى السماء فتفتح له السماء ويشيعه مقربوها إلى السماء الثانية والثالثة والرابعة والخامسة والسادسة والسابعة إلى العرش مقربو كل سماء، فإذا انتهى إلى العرش كتب كتابه في عليين و يقول الرب عز وجل: ردوا عبدي إلى مضجعه فإني وعدته أني منها خلقتهم وفيها أعيدهم ومنها أخرجهم تارة أخرى، فيرد إلى مضجعه فيأتيه منكر ونكير يثيران الأرض بأنيابهما، ويفحصان الأرض بأشعارهما فيجلسانه ثم يقال له: يا هذا من ربك؟ فيقول: ربي اللّه، فيقولان: صدقت، ثم يقال له: ما دينك؟ فيقول: ديني الإسلام، فيقولان: صدقت، ثم يقال له: من نبيك؟ فيقول: محمد رسول اللّه، فيقولان: صدقت، ثم يفسح له في قبره مد بصره، ويأتيه رجل حسن الوجه طيب الريح حسن الثياب فيقول: جزاك اللّه خيرا، فو اللّه ما علمت إن كنت لسريعا في طاعة اللّه بطيئا عن معصية اللّه، فيقول: وأنت فجزاك اللّه خيرا فمن أنت؟ فيقول:
أنا عملك الصالح، ثم يفتح له باب إلى الجنة فينظر إلى مقعده ومنزله منها حتى تقوم الساعة، وإن الكافر إذا كان في دبر من الدنيا وقبل من الآخرة وحضره الموت، نزلت عليه من السماء ملائكة معهم كفن النار وحنوط من نار قال:
فيجلسون منه مد بصره، وجاء ملك فيجلس عند رأسه ثم يقول: أخرجي أيتها النفس الخبيثة اخرجي إلى غضب اللّه وسخطه، فتفرق روحه في جسده كراهية أن تخرج لما ترى وتعاين، فيستخرجها كما يستخرج السفود من الصوف المبلول، فإذا خرجت نفسه لعنه كل شي ء بين السماء والأرض إلا الثقلين [8]، ثم يصعد به إلى السماء فتعلق دونه، فيقول الرب عز وجل: ردوا عبدي إلى مضجعه فإني وعدتهم أني منها خلقتهم وفيها أعيدهم ومنها أخرجهم تارة أخرى فترد روحه إلى مضجعه، فيأتيه منكر ونكير يثيران الأرض بأنيابهما ويفحصان الأرض بأشعارهما أصواتهما كالرعد القاصف، وأبصارهما كالبرق الخاطف، فيجلسانه ثم يقولان: يا هذا من ربك؟ فيقول: لا أدري، فينادي من جانب القبر لا دريت، فيضربانه بمرزبة من حديد، لو اجتمع عليها من بين الخافقين [9] لم تقل، ويضيق عليه قبره حتى تختلف أضلاعه، ويأتيه رجل قبيح الوجه قبيح الثياب منتن الريح فيقول:
جزاك اللّه شرا، فو اللّه ما علمت إن كنت لبطيئا عن طاعة اللّه سريعا في معصية اللّه، فيقول: ومن أنت؟ فيقول: أنا عملك الخبيث، ثم يفتح له باب إلى النار فينظر في مقعده فيها حتى تقوم الساعة» رواه الإمام أحمد ومحمود بن أبي غيلان وغيرهما عن أبي النضر. ففيه أن الأرواح تعاد إلى القبر، وأن الملكين يجلسان الميت ويستنطقانه (ثم ساقه) ابن منده من طريق محمد بن سلمة عن خصيف الجزري عن مجاهد عن البراء بن عازب قال: كنا في جنازة رجل من الأنصار، ومعنا رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم، فانتهينا إلى القبر ولم يلحد، ووضعت الجنازة، وجلس رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم فقال: «إن المؤمن إذا احتضر أتاه ملك الموت في أحسن صورة وأطيبه ريحا فجلس عنده لقبض روحه، وأتاه ملكان بحنوط من الجنة، وكفن من الجنة، وكانا منه على بعيد، فاستخرج ملك الموت روحه من جسده رشحا، فإذا صارت إلى ملك الموت ابتدرها الملكان، فأخذاها منه فحنطاها بحنوط من الجنة، وكفناها بكفن من الجنة، ثم عرجا به إلى الجنة، فتفتح له أبواب السماء، وتستبشر الملائكة بها، ويقولون: لمن هذه الروح الطيبة التي فتحت لها أبواب السماء؟ ويسمى بأحسن الأسماء التي كان يسمى بها في الدنيا، فيقال: هذه روح فلان، فإذا صعد بها إلى السماء شيعها مقربو كل سماء، حتى توضع بين يدي اللّه عند العرش، فيخرج عملها من عليين، فيقول اللّه عز وجل للمقربين: اشهدوا أني قد غفرت لصاحب هذا العمل ويختم كتابه فيرد في عليين، فيقول اللّه عز وجل: ردوا روح عبدي إلى الأرض فإني وعدتهم أني أردهم فيها، ثم قرأ رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم: ﴿مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى﴾ [20:55]، فإذا وضع المؤمن في قبره فتح له باب عند رجليه إلى الجنة، فيقال له: أنظر إلى ما أعد اللّه لك من الثواب، ويفتح له باب عند رأسه إلى النار، فيقال له: انظر ما صرف اللّه عنك من العذاب، ثم يقال له: نم قرير العين فليس شي ء أحب إليه من قيام الساعة»، وقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم: «إذا وضع المؤمن في لحده تقول له الأرض: إن كنت لحبيبا إلي وأنت على ظهري فكيف إذا صرت اليوم في بطني، سأريك ما أصنع بك، فيفسح له في قبره مد بصره»، وقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم: «إذا وضع الكافر في قبر أتاه منكر ونكير فيجلسانه فيقولان له من ربك؟ فيقول: لا أدري، فيقولان له:
لا دريت، فيضربانه ضربة فيصير رمادا، ثم يعاد فيجلس، فيقال له: ما قوله في هذا الرجل؟ فيقول: أي رجل، فيقولان محمد صلى اللّه عليه وآله وسلم فيقول: قال الناس إنه رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم فيضربانه ضربة فيصير رمادا».
هذا حديث ثابت مشهور مستفيض، صححه جماعة من الحفّاظ، ولا نعلم أحد من ائمة الحديث طعن فيه، بل رووه في كتبهم، وتلقوه بالقبول، وجعلوه أصلا من أصول الدين في عذاب القبر ونعيمه، ومساءلة منكر ونكير، وقبض الأرواح وصعودها إلى بين يدي اللّه، ثم رجوعها إلى القبر، وقول أبي محمد لم يروه غير زاذان [10] فوهم منه، بل رواه عن البراء غير زاذان، ورواه عنه عدي بن ثابت، ومجاهد بن جبير، ومحمد بن عقبة وغيرهم. وقد جمع الدار قطني طرقه في مصنف مفرد، وزاذان من الثقات، روي عن أكابر الصحابة كعمر وغيره، وروى له مسلم في صحيحه، قال يحيى بن معين: ثقة حميد بن هلال. وقد سئل عنه هو ثقة لا تسأل عن مثل هؤلاء، وقال ابن عدي: أحاديثه لا بأس بها إذا روى عن ثقة.
و قوله أن المنهال بن عمرو تفرد بهذه الزيادة وهي قوله فتعاد روحه في جسده وضعفه. فالمنهال أحد الثقات العدول، قال ابن معين: المنهال ثقة، وقال العجلي: كوفي ثقة. وأعظم ما قيل فيه أنه سمع من بيته صوت غناء، وهذا لا يوجب القدح في روايته، واطراح حديثه وتضعيف ابن حزم له لا شي ء فإنه لم يذكر موجبا لتضعيفه غير تفرده بقوله: فتعاد روحه في جسده، وقد بينا أنه لم يتفرد بها بل قد رواها غيره.
و قد روى ما هو أبلغ منها أو نظيرها كقوله: فترد إليه روحه، وقوله: فتصير إلى قبر فيستوي جالسا، وقوله فيجلسانه، وقوله: فيجلس في قبره، وكلها أحاديث صحاح لا مغمز فيها، وقد أعله غيره بأن زاذان لم يسمعه من البراء، وهذه العلة باطلة، فإن أبا عوانة الأسفرائيني رواه في صحيحه بإسناد، وقال عن أبي عمرو زاذان الكندي قال: سمعت البراء بن عازب، وقال الحافظ أبو عبد اللّه بن منده هذا إسناد مشهور رواه جماعة عن البراء.
و لو نزلنا عن حديث البراء فسائر الأحاديث الصحيحة صريحة في ذلك مثل حديث ابن أبي ذئب عن محمد بن عمرو بن عطاء عن سعيد بن يسار عن أبي هريرة أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم قال: «إن الميت تحضره الملائكة، فإذا كان الرجل الصالح قال: أخرجي أيتها النفس الطيبة كانت في الجسد الطيب، أخرجي حميدة وأبشري بروح وريحان ورب غير غضبان، قال:
فيقول ذلك حتى تخرج، ثم يعرج بها إلى السماء، فيستفتح لها فيقال: من هذا؟
فيقولون: فلان، فيقولون مرحبا بالنفس الطيبة كانت في الجسد، ادخلي حميدة وابشري بروح وريحان ورب غير غضبان، فيقال لها ذلك حتى ينتهي بها إلى السماء التي فيها اللّه عز وجل، وإذا كان الرجل السوء قال: أخرجي أيتها النفس الخبيثة كانت في الجسد الخبيث، اخرجي ذميمة وأبشري بحميم وغساق، وآخر من شكله أزواج، فيقولون ذلك حتى تخرج، ثم يعرج بها إلى السماء، فيستفتح لها، فيقال: من هذا؟ فيقولون: فلان، فيقولون: لا مرحبا بالنفس الخبيثة كانت في الجسد الخبيث، ارجعي ذميمة، فإنها لن تفتح لك أبواب السماء، فترسل بين السماء والأرض، فتصير إلى القبر، فيجلس الرجل الصالح في قبره غير فزع ولا معوق، ثم يقال: فما كنت تقول في الإسلام؟ ما هذا الرجل؟ فيقول محمد رسول اللّه جاءنا بالبينات من قبل اللّه فآمنا وصدقنا وذكر تمام الحديث.
قال الحافظ أبو نعيم: هذا حديث متفق على عدالة ناقليه، اتفق الإمامان محمد بن إسماعيل البخاري ومسلم بن الحجاج على أن أبي ذئب ومحمد بن عمرو ابن عطاء وسعيد بن يسار وهم من شرطها، ورواه المتقدمون الكبار عن ابن أبي ذئب مثل ابن أبي فديك وعبد الرحيم بن إبراهيم، انتهى. ورواه عن ابن أبي ذئب غير واحد.
(و قد احتج) أبو عبد اللّه بن منده على إعادة الروح إلى البدن بأن قال: حدثنا محمد بن الحسين بن الحسن، حدثنا محمد بن يزيد النيسابوري، حدثنا حماد بن قيراط، حدثنا محمد بن الفضل، عن يزيد بن عبد الرحمن الصائغ البلخي. عن الضحاك بن مزاحم، عن ابن عباس أنه قال: بينما رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم ذات يوم قاعد تلا هذه الآية: ﴿وَلَوْ تَرَىٰ إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ﴾[6:93] الآية، قال: «و الذي نفس محمد بيده، ما من نفس تفارق الدنيا حتى ترى مقعدها من الجنة والنار»، ثم قال: «فإذا كان عند ذلك صف له صفان من الملائكة، ينتظمان ما بين الخافقين، كأن وجوههم الشمس فينظر إليهم ما نرى غيرهم، وإن كنتم ترون أنهم ينظرون إليكم، مع كل منهم أكفان وحنوط، فإن كان مؤمنا بشروه بالجنة، وقالوا: أخرجي أيتها النفس الطيبة إلى رضوان اللّه وجنته، فقد أعد اللّه لك من الكرامة ما هو خير من الدنيا وما فيها، فلا يزالون يبشرونه ويحفون به، فهم ألطف وأرأف من الوالدة بولدها، ثم يسلون[11] روحه من تحت كل ظفر ومفصل، ويموت الأول فالأول، ويهون عليهم، وكم كنتم ترونه شديدا حتى تبلغ ذقنه، قال: فلهي أشد كراهية للخروج من الجسد من الولد حتى يخرج من الرحم، فيبتدرها كل ملك منهم: أيهم يقبضها، فيتولى قبضها ملك الموت، ثم تلا رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم: ﴿قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ﴾ [32:11] فيتلقاها بأكفان بيض، ثم يحتضنها إليه، فهو أشد لزوما لها من المرأة إذا ولدتها، ثم يفوح منها ريح أطيب من المسك، فيستنشقون ريحها ويتباشرون بها، ويقولون: مرحبا بالروح الطيبة والروح الطيب، اللهم صل عليه روحا وعلى جسد خرجت منه، قال: فيصعدون بها، وللّه عز وجل خلق في الهواء لا يعلم عدتهم إلا هو، فيفوح لهم منها ريح أطيب من المسك، فيصلون عليها ويتباشرون، ويفتح لهم أبواب السماء، فيصلي عليها كل ملك في كل سماء تمر بهم، حتى ينتهي بها بين يدي الملك الجبار جل جلاله، مرحبا بالنفس الطيبة وبجسد خرجت منه، وإذا قال الرب عز وجل للشي ء مرحبا رحب له كل شي ء، ويذهب عنه كل ضيق، ثم يقول لهذه النفس الطيبة: أدخلوها الجنة وأروها مقعدها من الجنة وأعرضوا عليها ما أعددت لها من الكرامة والنعيم، ثم اذهبوا بها إلى الأرض، فإني قضيت أني منها خلقتهم وفيها أعيدهم ومنها أخرجهم تارة أخرى، فوالذي نفس محمد بيده لهي أشد كراهية للخروج منها حين كانت تخرج من الجسد، وتقول: أين تذهبون بي إلى ذلك الجسد الذي كنت فيه؟ قال: فيقولون: إنا مأمورون بهذا، فلا بد لك منه، فيهبطون به على قدر فراغهم من غسله وأكفانه، فيدخلون ذلك الروح بين جسده وأكفانه.
فدل هذا الحديث أن الروح تعاد بين الجسد والأكفان، وهذا عود غير التعلق الذي كان لها في الدنيا بالبدن، وهو نوع آخر، وغير تعلقها به حال النوم، وغير تعلقها به وهي في مقرها، بل هو عود خاص للمسألة.
و قال شيخ الإسلام: الأحاديث الصحيحة المتواترة تدل على عودة الروح إلى البدن وقت السؤال، وسؤال البدن بلا روح قول قاله طائفة من الناس وأنكره الجمهور، وقابلهم آخرون فقالوا: السؤال للروح بلا بدن، وهذا قاله ابن مرة وابن حزم، وكلاهما غلط، والأحاديث الصحيحة ترده، ولو كان ذلك على الروح فقط لم يكن للقبر بالروح اختصاص.
[عذاب القبر وعلامة البدن والروح به] وهذا يتضح بجواب المسألة وهي قول السائل: هل عذاب القبر على النفس والبدن أو على النفس دون البدن أو على البدن دون النفس. وهل يشارك البدن النفس في النعيم والعذاب أم لا؟.
و قد سئل شيخ الإسلام عن هذه المسألة، ونحن نذكر لفظ جوابه فقال: بل العذاب والنعيم على النفس والبدن جميعا باتفاق أهل السنّة والجماعة، تنعم النفس وتعذب منفردة عن البدن، وتنعم وتعذب متصلة بالبدن، والبدن متصل بها، فيكون النعيم والعذاب عليهما في هذه الحال مجتمعين، كما تكون على الروح منفردة عن البدن، وهل يكون العذاب والنعيم للبدن بدون الروح؟ هذا فيه قولان مشهوران لأهل الحديث والسنّة وأهل الكلام، وفي المسألة أقوال شاذّة ليست من أقوال أهل السنّة والحديث، قول من يقول: إن النعيم والعذاب لا يكون إلا على أرواح، وأن البدن لا ينعم ولا يعذب، وهذا تقوله الفلاسفة المنكرون لمعاد الأبدان، وهؤلاء كفار بإجماع المسلمين، ويقوله كثير من أهل الكلام من المعتزلة وغيرهم الذين يقرون بمعاد الأبدان لكي يقولون لا يكون ذلك في البرزخ، وإنما يكون عند القيام من القبور، لكن هؤلاء ينكرون عذاب البدن في البرزخ فقط، ويقولون: إن الأرواح هي المنعمة أو المعذبة في البرزخ، فإذا كان يوم القيامة عذبت الروح والبدن معا.
و هذا القول قاله طوائف من المسلمين من أهل الكلام والحديث وغيرهم، و هو اختيار ابن حزم وابن مرة، فهذا القول ليس من الأقوال الثلاثة الشاذة، بل هو مضاف إلى قول من يقول بعذاب القبر، ويقر بالقيامة، ويثبت معاد الأبدان والأرواح، ولكن هؤلاء لهم في عذاب القبر ثلاثة أقوال:
إحداها: أنه على الروح فقط.
و الثاني: أنه عليها وعلى البدن بواسطتها.
و الثالث: أنه على البدن فقط، وقد يضم إلى ذلك القول الثاني وهو قول من يثبت عذاب القبر ويجعل الروح هي الحياة، ويجعل الشاذ قول منكر عذاب الأبدان مطلقا، وقول من ينكر عذاب الروح مطلقا، فإذا جعلت الأقوال الشاذة ثلاثة فالقول الثاني الشاذ قول من يقول أن الروح بمفردها لا تنعم ولا تعذب، وإنما الروح هي الحياة، وهذا يقوله طوائف من أهل الكلام من المعتزلة والأشعرية كالقاضي أبي بكر وغيره، وينكرون أن الروح تبقى بعد فراق البدن، وهذا قول باطل قد خالف أصحابه أبو المعالي الجويني [12] وغيره بل قد ثبت بالكتاب والسنّة واتفاق الأمة أن الروح تبقى بعد فراق البدن وأنها منعمة أو معذبة، والفلاسفة الإلهيون يقرون بذلك.
و لكن ينكرون معاد الأبدان، وهؤلاء يقرون بمعاد الأبدان، لكن ينكرون معاد الأرواح ونعيمها وعذابها بدون الأبدان، وكلا القولين خطأ وضلال، لكن قول الفلاسفة أبعد عن أقوال أهل الإسلام، وإن كان يوافقهم عليه من يعتقد أنه متمسك بدين الإسلام، بل من يظن أنه من أهل المعرفة والتصوف والتحقيق والكلام.
و القول الثالث الشاذ قول من يقول: إن البرزخ ليس فيه نعيم ولا عذاب، بل لا يكون ذلك حتى تقوم الساعة الكبرى كما يقول ذلك من يقوله من المعتزلة ونحوهم ممن ينكر عذاب القبر ونعيمه، بناء على أن الروح لا تبقى بعد فراق البدن، وأن البدن لا ينعم ولا يعذب، فجميع هؤلاء الطوائف ضلال في أمر البرزخ لكنهم خير من الفلاسفة فإنهم مقرون بالقيامة الكبرى.

هامش

 

  هي الحديدة التي يشوى بها اللحم.

    هو ثوب غليظ مصنوع من الشعر.

    قال تعالى: ﴿وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللّهُ مُخْرِجٌ مَّا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ۝72فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ۝73 [2:72—73]

    الديماس بالكسر: السرب، وفي حديث عن المسيح أيضا: «إنه سبط الشعر كثير خيلان الوجه كأنه خرج من ديماس» يعني من نضرته وكثرة ماء وجهه أي: كأنه خرج من كن لأنه قال في وصفه: كأن رأسه يقطر ماء.

    روى الإمام أحمد في مسنده (4/ 8) عن أوس بن أوس قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم: «من أفضل أيامكم يوم الجمعة، فيه خلق آدم، وفيه قبض، وفيه النفخة وفيه الصعقة، فأكثروا علي من الصلاة فيه فإن صلاتكم معروضة علي» فقالوا: يا رسول اللّه: وكيف تعرض عليك صلاتنا وقد أرمت- يعني وقد بليت- قال: «إن عز وجل حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء» صلوات اللّه عليهم.

    قال ابن الجوزي في تفسير هذه الآية الكريمة: أراد بمن في القبور الكفار وشبههم بالموتى، أي فكما لا يقدر أن يسمع من في القبور كتاب اللّه وينتفعوا بمواعظه، فكذلك من كان حيث القلب لا ينتفع بما يسمع.

    أخرج أبو داود في كتاب الجنائز باب المشي في النعل بين القبور عن أنس عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم أنه قال: «إن العبد إذا وضع في قبره وتولى عنه أصحابه إنه ليسمع قرع نعالهم».

    أي الإنس والجن.

    الخافقان: المشرق والمغرب لأن الليل والنهار يخفقان فيهما.

    هو أبو عمر زاذان مولى كندة، وقد شهد خطبة عمر بالجابية وكان من علماء الكوفة، توفي سنة إحدى وثمانين.

    سلَّ الشَّيءَ من الشَّيءِ: انتزعه وأخرجه برفق.

  إمام الحرمين، المتوفي سنة 478 ه.

 

 

7.

المسألة السابعة (الرد على منكري عذاب القبر)

و هي قول السائل: ما جوابنا للملاحدة والزنادقة المنكرين لعذاب القبر وسعته وضيقه وكونه حفرة من حفر النار أو روضة من رياض الجنة وكون الميت لا يجلس ولا يقعد فيه.
قالوا: فإنا نكشف القبر فلا نجد فيه ملائكة عميا صما يضربون الموتى بمطارق من حديد، ولا نجد هناك حيات ولا ثعابين ولا نيرانا تأجج، ولو كشفنا حاله في حالة من الأحوال لوجدناه لم يتغير، ولو وضعنا على عينيه الزئبق وعلى صدره الخردل لوجدناه على حاله، وكيف يفسح مد بصره أو يضيق عليه، ونحن نجده بحاله، ونجد مساحته على حد ما حفرناها، لم يزد ولم ينقص، وكيف يسع ذلك اللحد الضيق له وللملائكة وللصورة التي تؤنسه أو توحشه؟ قال إخوانهم من أهل البدع والضلال، وكل حديث يخالف مقتضى القول والحس يقطع بتخطئة قائلة، قالوا: ونحن نرى المصلوب على خشبة مدة طويلة لا يسأل ولا يجيب ولا يتحرك ولا يتوقد جسمه نارا، ومن افترسته السباع ونهشته الطيور وتفرقت أجزاؤه في أجواف السباع وحواصل الطيور وبطون الحيتان ومدارج الرياح كيف تسأل أجزاؤه مع تفرقها، وكيف يتصور مسألة الملكين لمن هذا وصفه، وكيف يصير القبر على هذا روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار، وكيف يضيق عليه حتى تلتئمه أضلاعه، ونحن نذكر أمورا يعلم بها الجواب.

 

هامش

 ارجع الي موفع ويكي للكتب 









المسألة السابعة


 ارجع الي موفع ويكي للكتب 

 
الرد على منكري عذاب القبر | فصل أخبار الرسل | فصل مراد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم | فصل أقسام الدور | فصل أمر الآخرة من الغيب | فصل ماهية النار والخضرة في القبر | فصل عجائب اللّه في مخلوقاته | فصل عودة الروح | فصل عذاب القبر وعذاب البرزخ | فصل البعث




................

 

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق